الجمعة 26 أبريل 2024
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي
رئيس مجلسي الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي

آراء حرة

"ماسبيرو".. أكلتم خيره ونهشتم عرضه

تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق google news
لا يزال مبنى «اتحاد الإذاعة والتليفزيون» الشاهق يقف على النيل فى قلب القاهرة شامخا متحديا رغم المحن والتربص ليذكرنا بأمجاد الماضى.. فقد أنشئ هذا المبنى العريق فى زمن قياسى بناء على تعليمات الرئيس جمال عبدالناصر الذى أصدر قرارا بإنشائه فى (أغسطس١٩٥٩) على أن يتم بناؤه قبل مضى العام وتحديدا فى (٢١ يوليو ١٩٦٠).. ورغم قصر المدة إلا أننا دائما حين نملك الإرادة نستطيع التنفيذ.. وبالفعل تم افتتاحه فى الوقت المحدد ليواكب احتفالات العيد الثامن لثورة يوليو.. وأصبح بذلك الأعرق والأقدم فى المنطقة العربية والإفريقية.. وقد عُرف المبنى باسم «ماسبيرو».. وهو عالم المصريات الفرنسى جاستون ماسبيرو (١٨٤٦-١٩١٦) الذى عشق تراب مصر وحضارتها وساهم فى الحفاظ على تاريخها.. فقد درس اللغة الهيروغليفية وهو فى الرابعة عشرة من عمره ثم تعلم اللغة العربية، واهتم بدراسة التاريخ المصرى وترجمة النقوش الفرعونية.. ثم جاء إلى مصر لأول مرة عام (١٨٨١) ليتولى إدارة مصلحة الآثار المصرية، بالإضافة لتوليه منصب أمين المتحف المصرى فى بولاق، إلى جانب استكماله عمليات التنقيب عن الآثار، وجهوده فى إزالة الرمال عن أبوالهول.. وكان مهتما بجمع النصوص الفرعونية وترجمتها لكشف أغوار الحضارة المصرية التى كان مغرما وشغوفا بها.. وقد اكتشفت مئات التماثيل المنتمية لعصور مختلفة فى عهده.. وكان له دور كبير فى مواجهة سرقة الآثار المصرية، وسعى لاستصدار قانون عام ١٩١٢ لحمايتها.. ونظرا لقيامه بنقل محتويات المتحف المصرى ببولاق إلى مقره الحالى، لذلك تم إطلاق اسمه على الشارع الشمالى للمتحف المصرى تيمنا به وتخليدا لجهوده، فأصبحت المنطقة تحمل اسمه.. وبعد بناء مبنى الإذاعة والتليفزيون حمل نفس الاسم ليتم تمييزه عن مبنى الإذاعة القديم بشارع الشريفين.. وأصبح المنبر الرسمى للدولة وأحد رموزها.. وكما تتعرض مصر لمحاولات النيل منها وتركيعها بتضييق الحصار ومنع الموارد، يعانى «ماسبيرو» أيضا من التآمر والتربص الذى يستهدف إسقاطه، ولكننا جميعا مشاركون!!.. فتارة يتكتل بعض رجال الأعمال لمحاولة منع الإعلانات عنه لقطع الموارد!!.. وتارة أخرى يتآمر عليه أبناؤه العاقون ممن لديهم انتماءات سياسية مضادة لمحاولة إحراج الدولة!!.. ونتآمر عليه نحن بالسخرية والتهكم وزرع الإحباط واليأس فى نفوس عامليه وكوادره!!.. وتتآمر قياداته بصمتهم عن السلبيات والمعوقات التى تكبلهم سواء قلة ميزانية، أو ترهل فى الجهاز الإدارى بزيادة العمالة أضعافا مضاعفة عن حاجة العمل الفعلية، أو بوجود موظفين منتمين للجماعة الإرهابية!!.. أما المتآمر الأكبر فهو الحكومة بوقوفها مكتوفة الأيدى أمام ما يحدث من انهيار دون إنقاذه بوضع خطط وتنفيذها فى أسرع وقت ممكن، وبعدم توفير ميزانية كافية تضمن قدرته على المنافسة فى ظل الحرب الطاحنة التى تشنها وسائل الإعلام مجهولة التمويل، وبعجزها عن استئصال الفساد المستشرى الذى يؤدى إلى أخطاء مهنية فادحة تستهدف خلخلة الثقة فى الدولة وأجهزتها.. وهو ما جعل الإعلامى المتميز والمثقف أحمد عبدالعظيم أحد أبناء ماسبيرو البارين يوجه رسالة إلى الرئيس من خلال صفحته الشخصية على الفيسبوك قائلا: «عدنا إلى الوراء كثيرا يا سيادة الرئيس.. وانتصر الفساد والمفسدون مرة أخرى بالاستغناء عن أ/مصطفى شحاتة الذى لم يعرف قطاع الأخبار مثيلا له فى الأخلاق والنزاهة والمهنية.. لذلك حرص المفسدون على إبعاده وعاونهم تراخى الأجهزة الرقابية التى تتشدق بالفساد المنتشر والمتغلغل بعمق ماسبيرو ولم يخرجوا بقضية واحدة!!».. «ماسبيرو» هو مرآة لحالة مصر.. لذلك أشعر بغيرة وحزن حين أرى حالته المتردية والحرب الشرسة التى يتعرض لها، وقسوة الهجوم.. فمنذ طفولتى كان «ماسبيرو» يبهرنى بأضوائه الساحرة وعالمه المبهر.. وقبل أن أتخطى مرحلة الطفولة دخلت هذا المبنى العملاق ضيفة فى العديد من البرامج.. فكان من حسن حظى أن شاهدته فى قمة مجده ونلت شرف التجول فى طرقاته والشعور بهيبته.. وكنت أراه كخلية نحل، الكل يعمل بدأب ونشاط ونظام.. ولا أنسى الدقائق القليلة التى جمعتنى بالفنان العملاق أحمد زكى أمام استديو «صباح الخير يا مصر» قبل الفقرة المخصصة لى، حيث كان ضيف الفقرة التى سبقتنى.. وشجعنى بكلمات رقيقة أثناء الفاصل وقبل دخولى على الهواء مباشرة.. فكان الظهور على هذه الشاشة العريقة شرفا يتمناه الجميع.. فأين نجومنا من تليفزيون الدولة الذين أكلوا خيره!!..والذين يتعالون عليه الآن بعد أن أصبحوا يتقاضون أجورا خيالية من القنوات الوليدة التى قامت على أيدى أبناء ماسبيرو!!.. هذا المبنى العملاق له الكثير فى تكويننا الثقافى والفكرى وله فضل فى التوعية والارتقاء بالإنسان العربى بوجه عام.. ولكن منذ دخولنا السنين العجاف ونحن نرى استهدافه.. وأشعر بالمرارة كلما زرته للتدهور الذى لحق بالمبنى والاستديوهات وضيق الإمكانيات.. وحالة الإحباط التى تملكت العاملين فيه، رغم أنه لا يزال يحتفظ بكوادر وطاقات قادرة على إنشاء عشرات الكيانات الإعلامية الناجحة.. ولكن كما يقال «العين بصيرة واليد قصيرة».. كيف فى ظل انعدام الإمكانيات؟!.. رغم تأكيد بعض المسئولين فى الحكومة أن ميزانيته تضاعفت هذا العام؟!.. فأين ذهبت الميزانية على أرض الواقع؟!.. أما اللافت للنظر فهو الإصرار على تشويه مبنى ماسبيرو من الخارج؟!.. فأطفئت أنواره وترك المبنى الرائع محاطا بصور رديئة من الإهمال المتعمد والعشوائية!!.. ما هى الصعوبة فى عودة هذا المبنى «خارجيا» إلى تألقه وبهائه؟!.. ضمدوا جراحه وجففوا دموعه التى تبكى جحودنا وإهمالنا وقلة حيلتنا.. ليستعيد كبرياءه وكرامته قبل الحديث عن علاج مشكلاته الداخلية!!.. فنحن نحتاج إرادة سياسية ونوايا حقيقية لإصلاح ماسبيرو وإعادته إلى مكانته.. وتذكروا.. هيبة «ماسبيرو» من هيبة الدولة!!.