الجمعة 19 أبريل 2024
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي
رئيس مجلسي الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي

آراء حرة

فتاة مانيلا

تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق google news
زرت بلغاريا قبل أن يتحول اقتصادها من الانغلاق إلى الانفتاح فى أواخر الثمانينيات، وشعرت وأنا أسير هناك أن الأرض لا تلد من باطنها الخيرات، وأن المصانع من فوقها عقمت عن الإنتاج، وأن عجلة الاقتصاد كفت تمامًا عن الدوران، فالمحلات كانت أرففها تكاد تكون خالية من كل البضائع والمصنوعات خلوًا يجلب فى القلوب الأحزان، ورأيتُ الناسَ هناك فى تلك الأثناء قد اختاروا درجة من درجات اللون البنى التى يندر أن يظهر عليها الاتساخ لتكون لون لباسهم بشكل عام، وذلك لتوفير مساحيق الغسيل. وكانت الشوارع هناك إن غربت عنها شمس النهار لا تشرق فيها مصابيح الكهرباء اللهم إلا بعض المصابيح التى تمت المباعدة بمبالغة فيما يفصل بينها من مسافات، مما يجعل المار فى تلك الطرقات يرى المارة كالأشباح، وكبائن التليفونات هناك كانت لا تضاء فى هذا الظلام إلا إن وقف فوق أرضها من يريد الاتصال، وذلك بقصد ترشيد استهلاك الكهرباء، وقد شاهدت البلغاريين يقفون فى طوابير للحصول على وجبة الغذاء التى اكتشفت أنها تتكون من قرص واحد صغير من اللحم المفروم المخلوط بكثير من البصل والخضراوات، ولا يزيد قطره عن ثلاثة سنتيمترات، علاوة على شرائح معدودات من بطاطس شيبسى محمرة رقيقة كأوراق الأشجار، وملعقتين فقط لا غير من السلطة الخضراء، ورغيف واحد من الخبز لا يزيد قطره علي قطر زهرة دوار الشمس!
وفى بولندا التى كان حالها فى تلك الفترة لا يختلف عن حال بلغاريا رأيتُ وأنا أزورها عساكر الجيش البولندى المعينين لحراسة قطع أساطيل البحرية التجارية فى الموانئ البولندية، يبيعون لبحارة السفن الأجنبية ملابسهم العسكرية من فرط معاناتهم فى ذلك الوقت من الفاقة والفقر!
ولقد شاهدتُ منذ سنوات فى قناة دبى الاقتصادية تقريرًا عن قرية الأكواخ فى مانيلا العاصمة الفليبينية، فشاهدت مستوى آخر من مستويات الفقر المتدنية، إذ سلط التقرير الأضواء على أناس يكافحون الفقر فى الحياة وهم يتعرضون للأخطار ويصارعونها من أجل البقاء، فمنهم من يجرى بين شريطى السكة الحديد يدفع عربة خشبية تصميمها الفريد هو فى حد ذاته دليل على أن الحاجة أم الاختراع، فهى مصممة بحيث تجرى على أربع عجلات فوق القضيبين اللذين يجرى فوقهما القطار، وتستخدم كوسيلة مواصلات أرخص من القطار، إذ يركبها الراكب لقاء القليل من الفرنكات، وبالتالى تناسب أهل القرية الفقراء، وتتميز عن القطار بإمكانية توقفها فى أى مكان مما يوفر الكثير من الجهد والوقت للركاب.. لكن المشكلة التى تواجه كل يوم عدة مرات صاحب - أو مؤجر - كل عربة والركاب هى مجيء القطار، فحينئذ يوقف العربة صاحبُها أو مؤجرها باستخدام فراملها ثم يرفعها فى الحال بمساعدة الركاب ليبعدوها عن طريق القطار الذى يكون قد هدأ السرعة إلى حد ما فى المسافة التى تجرى فيها مثل تلك العربات والتى تقدر ببضعة كيلومترات، وذلك رأفة بهؤلاء الفقراء.. والغريب أن بعض صانعى هذه العربات جعلوا إحداها قاطرة تجرى بمحرك يكفى لجرها فوق القضيبين وهى تجر وراءها عدة عربات تحمل الركاب كالقطار، والأغرب أنهم - أى الصُناع - صنعوا بالمثل سيارات تجرى بمحركات فى طرقات السيارات ليستخدموها فى نقل البضاعة والتجارة بين الأحياء.
قال أحد مستأجرى هذه العربات: أمنيتى أن أتناول فى اليوم ثلاث وجبات!
وقالت إحدى الفتيات التى تتاجر فى الأخشاب باستخدام تلك العربات: إن الخشب الذى نبيعه يدعى التجار أنه قطع صغيرة غير مرغوبة من أجل شرائه فى نهاية الأمر بثمن بخس!، ثم طلب منها مقدم التقرير أن تغنى متجاهلًا ما كانت تعانى منه، فأدهشنى أن تغنى بصوتها الحزين أغنية كلامها جميل.. تقول: لماذا تلومنى وتستخف بي؟!، فأنا عفيفة واستحق احترامك!