السبت 20 أبريل 2024
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي
رئيس مجلسي الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي

آراء حرة

الرسول في نيويورك

تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق google news
كنت فى الطائرة المتجهة إلى نيويورك، وحين تسافر إلى نيويورك تأتى الترجمة العربية الحرفية فى رأسك دون أن تستعيدها حتى – المدينة الجديدة – وكأننى فى كل مرة أزورها أقطع تذكرة للعبور إلى العالم الجديد، قادمًا من العالم القديم.
سافرت فى خيالى بعيدًا، كيف لمدينة أن تبدأ بجوار الماء على مصب فم نهر «هدسن»، الذى يصب فى ميناء محمى طبيعيًا، ثم فى المحيط الأطلسي، أن تسمى مباشرة بالمدينة الجديدة، وأن يكون لها بعد كل هذا من اسمها وافر الحظ والنصيب؟
نيويورك التى غنى لها سيناترا.. حتى غدت أغنيته للمدينة احتكارًا، كما احتكر السياب أنشودة المطر بصوت محمد عبده، نيويورك التى لا تكف عن الازدحام ولا تعرف معنى النوم، نيويورك التى يأتى إليها الناس لألف حاجة، وينصرفون وقد اشتروا كل شيء وبقى فى النفس منها ألف حاجة، الميناء الأقدم للقارة الجديدة، حيث حارب الهولنديون الهنود الحمر، وحيث نزل الأيرلنديون وهاجر إليها السود كى يكتبوا أروع الأغانى فى الحانات الخلفية لهارلم، نيويورك التى كبغداد القرن السادس لا ترد من أتاها عن حاجته، وتعطى يدها لكل من يشتهيها، لكنها تحافظ على مسافة واحدة من الجميع، أنا صديقة الجميع لكن لا صديق لي!
نيويورك التى أعشقها؛ لأن سدس سوق النشر العالمية والصحافة والإعلام يصنع هاهنا، هنا تبدأ الأخبار بالاستيقاظ من كل الجهات، نشرات الأخبار الساخنة، وهنا يركض مستثمر ناجح فوق الأرض بسيارته الفاخرة، بينما يترنح رسام ثمل فى القطار الثانى العائد ليلاً إلى برونكس أو متجهًا إلى بروكلين.
تحب اللون الأخضر بينما المدن الأخرى ترفض ذلك، تعالى إلى نيويورك، واذهب إلى السنترال بارك لترى كيف يمكن للرأسمالية أن تخفف وطأها قليلاً كى يتنفس الآخرون داخل أكبر حديقة صناعية فى العالم، نحن لا نبحث فقط عن أفعال التفضيل، لكننا ننحاز للأخضر حين نصمم كل تلك الغرف الضيقة التى لا يعرف فيها الجار جاره، تعالى إلينا، وحين تتعب من المشى تمشّ قليلا واصعد عتبات الحضارات عتبة عتبة، على بعد أمتار معدودة يجاور التاريخ اللون الأخضر كأن الطبيعة أخت التاريخ الوفية، هنا المتروبوليتان، حضارات الشرق والغرب، ضع هذه اللصقة على أى مكان من قميصك واعتبرها جواز سفر لكل جهات الأرض، اصعد قليلاً قليلاً، ستجد فنانى عصر النهضة خالدين بالألوان على الجدران فسيحة الصدور، فرس يكاد من صدق ألوانه يصهل، حبيبة لن تسقط من النافذة، متحف للقطات الخاصة حتى بالنوم والأحلام، غرفة دمشقية تبكى على مدخلها حين تتذكر النوافير التى أكلها القصف وسواها بالأرض، كلمة الرسول العربى عن أهل اليمن: «أتاكم أهل اليمن، هم أرق أفئدة وألين قلوبا، الإيمان يماني والحكمة يمانية»، وأحزن وحدى حين أتذكر أن الشام لم يعد شامًا تحت قصف الجزار، وأن اليمن ما عاد حكيمًا بعد أن أصبح جوهرة فى كف فحام.
نيويورك التى لها ألف وجه فى كل ساعة من نهار أو ليل، تجعلك تائهًا مهما كنت عارفًا جهة الطريق، كل الوجوه بشر كرام يساوى بينهم القانون، من يضربك بالكتف خطأ يعتذر، وقد تكون تلك الكلمة الأكثر شيوعًا فى نيويورك: «سوري.. سوري.. لقد كاتفتك بالخطأ»، استمتع فى رحلتك خلف أى شيء فى العالم الجديد، حتى لو كنت تركض خلف بوكيمون خرج للتو من المتحف العجوز، حيث كل الأفكار كانت اسمًا بعد حلم.. تمامًا.. كما سمينا هذه المدينة الجديدة قبل مئات الأعوام.. ولا تزال جديدة هى نيويورك فى كل حين.
نقلًا عن «الشرق الأوسط»