الخميس 16 مايو 2024
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي
رئيس مجلسي الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي

آراء حرة

خنق الفساد.. يد واحدة لا تكفي

تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق google news
افتراض الصدق فيما ترصده بعض الفضائيات والصحف وهى تصور للمتابع بكل ثقة أن الفساد ما زال يحقق انتصاراته في الانتشار والتوغل حتى أصبح شريكا لنا في قهوة الصباح، وأنه لا سبيل للقضاء على الآفة اللعينة رغم كل ما يُبذل.. بينما لو صدق ما يرد على منابر إعلامية أخرى تؤكد أن القضاء على «فيروس» الفساد تم بنجاح ساحق، حتى أنه كاد ينضم إلى قائمة المستحيلات الثلاث.. الغول والعنقاء والخل الوفى! بين هذا وذاك تاهت رؤية المواطن عن بعض الإشارات المهمة المرتبطة بهذه الظاهرة، حتى الفساد خضع للرؤى الخاصة بين التدليل المفرط إما لطرف الشعب من جانب، وإما للحكومة من وجهة نظر أخرى. 
شريحة كبيرة من «النخبة» المصرية تشارك الغرب إعجابه المفرط بالتجربة التونسية منذ (ثورة الياسمين).. لكنها لم تتوقف أمام بعض الملاحظات على خطاب رئيس الوزراء الجديد يوسف الشاهد بمناسبة تسلم حكومته مسئوليتها أمام البرلمان.. تحديدا تلك التي تطرقت إلى إجراءات الإصلاح الاقتصادى التي تنوى حكومته اتخاذها.. وهو ما سيفرض إدخال تعديلات على النظام الضريبي، واضطرار حكومته تبنى برنامج تقشف يتضمن خفض وظائف القطاع العام ومحاربة أوجه الفساد المالي، بهدف تجاوز الأزمة الاقتصادية نتيجة تدنى إيرادات السياحة التي تشكل أحد موارد الدخل الأساسى لتونس. 
البرلمان منح الثقة لحكومة الشاهد بما في ذلك كتلة المعارضة التي تعى جيدا أن دورها في البرلمان ليس لاستعراض «العضلات» أمام كاميرات القنوات الإخبارية بقدر ما هو فهم لواقع الوضع ومشاركة الحكومة في إخراج تونس من أزمتها الاقتصادية. 
كان الأجدى أن تتخذ الأصوات المعارضة في مصر من هذا الموقف نموذجا بدلا من السعى وراء بطولات زائفة، إلّا لو افترضنا أن السعى وراء المكاسب الشخصية في مجال العمل العام- سواء المعنوية أو المادية- لا يدخل ضمن أوجه الفساد.
الانحياز إلى المساعى التي تهدف إلى الإصلاح بالتأكيد هو الاختيار الأقرب إلى الخروج من الأزمات بدلا من اقتصار عمل المعارضة- داخل أو خارج البرلمان- على لعن الظلام وتنسى دورها في إيقاد شمعة تنير الطريق. 
خلال عامين من حكم الرئيس السيسي، قُبِلت استقالة وزيرين بتهم فساد.. إجراء يحمل إشارة لا تحتمل اللبس -رغم ذلك لم تصل إلى مسامع رابطة اللطم والبكاء على ما وصلت إليه الأحوال في مصر- مقارنة بما كان يحدث خلال عقود الترهل السياسي من تكتم على فساد الكبار. تطالعنا الصحف يوميا بأخبار القبض على مسئولين في مناصب رفيعة بتهم الرشاوى والفساد.. رسالة هامة ومباشرة تؤكد أن المناصب لم تعد الحضن الآمن لممارسة الفساد. 
حالة الحراك الدئوب في مواجهة الفساد هي بحد ذاتها خطوة على الطريق الصحيح وفقا للتعريف الذي يحدد وسائل محاربة هذه المنظومة.
على الطرف الآخر، الحكومة ما زالت بحاجة إلى المزيد من السرعة في التحرك لمواكبة الحرب الحاسمة التي يقودها الرئيس السيسى على الفساد، بدليل الكشف عن أهم ملفات الفساد الكبرى.. استرداد الأراضى المنهوبة، صوامع القمح، الأوقاف، دون استثناء لأى متورط بسبب منصبه أو زعمه القرب من الرئاسة. هذه الإشارات لم يضعها الفاسدون الصغار في اعتبارهم، على أمل استطاعتهم النفاذ بجرائمهم أو إيجاد ثغرات عبر آليات عمل الفساد.
إن كانت الحكومة لا تتحمل وزر منهج تفكير هؤلاء الفاسدين، هي بالتأكيد تتحمل مسئولية التباطؤ في تطبيق طرق أكثر حسما للمواجهة من خلال آليات عمل هيئات الرقابة المختلفة، وهى خطوة ستؤدى حتما إلى امتصاص مشاعر التذمر، ويخفف من شكاوى الأعباء المالية التي يعانى منها المواطن البسيط، وذلك حين يلمس محاسبة التجار والموردين المتلاعبين في قوته، خصوصا في ظل عدم وجود أي عذر لدى هذه الهيئات في عدم استحداث آليات أكثر حزما ووضوحا للمواطن، بينما الرئيس يكرر دعوته للمسئولين أن من يتردد في توقيع أي قرار يلجأ إليه للتوقيع شخصيا. 
الأجهزة الرقابية المرتبط عملها بالمتطلبات الأساسية للمواطن، مثل السلع الغذائية ومراقبة أسعار الأسواق التي تخضع لجشع التجار، ما زال يشوب عملها الكثير من التراخى، مقارنة بالعمل المتواصل الذي تقوم به هيئة الرقابة الإدارية في الكشف عن قضايا فساد كبيرة. 
أذرع الفساد ما زالت موجودة، بل تزداد توحشا، في المقابل لا يمكن إغفال حقيقة أن منظومة الفساد حاليا أصبحت تفتقد غطاء التكتم والصمت الذي وفر لها خلال العقود الماضية واحة آمنة لممارسة جرائمها، لكن كما الحال مع العديد من الثوابت الأخرى، انتقل مفهوم الفساد وأوجه مواجهته من التعريف الموضوعى ليخضع هو الآخر إلى الأهواء السياسية والآراء المتناقضة، علما بأن الحقائق المرتبطة بالفساد ثابتة لا تحتمل قراءات مختلفة. الأمر المؤكد بعد عقود الترهل السياسي التي أطلقت يد الفساد دون محاسبة، أن القضاء على هذا «الفيروس» اللعين لن ينفرد بها طرف واحد – الحكومة أو الشعب- إذ لن تكتمل معادلة تقييد أذرعه إلا بتضافر الجهود.