الجمعة 19 أبريل 2024
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي
رئيس مجلسي الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي

آراء حرة

رجل يصطاد الجليد وامرأة تعالج وطنًا

تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق google news
خلال الخمسين عامًا الأخيرة انشغل صديقى المخرج برامود ماتور Pramod Mathur بالتنقيب عن حياة البسطاء في بلاده، الهند، في سينما تسجيلية توثق ما يحلمون به، وما يخافون منه، وما يتمنون تحقيقه. 
ستراه منطلقًا على خريطة الهند، تارة يسير مع مياه نهر الجانج، وأخرى يصعد الجبال، خاصة إذا كانت تلك الجليدية glaciers التي سجل انهيارها بسبب الاحتباس الحرارى في فيلم قصير، مثير وشهير. 
لكن ما كان يشدنى لأفلامه هو الحلول التي يبتكرها أبطال قصصه المصورة، وهى حلول لمشكلات قريبة مما نعانيه نحن في مصر، خاصة تلك التي تعنى بالتلوث، والنفايات، والطاقة، بل والجفاف، خاصة مع ما يلوح في سماء المستقبل حول شح المياه العذبة.
في إحدى قرى الشمال الهندى يعانى الفلاحون من ندرة المطر. يحدث ذلك في الوقت الذي تنهار فيه أمامهم قمم الجبال الجليدية وتذوب مياهها، وتتبخر، فتضيع خلال فصل الصيف، دون أن يفيد هذا الماء العذب أحدًا. هنا تتفتق عقلية أحد المهندسين المحليين عن حل، من خلال قيامه بعمل ما يشبه «فخًا» يحتجز فيه قطع الجليد الضخمة تحت إبط ظليل للجبال، وبصناعة حواجز بالخامات المحلية، يتكون سدُّ صناعى، كفيل بأن يوفر الماء الذي تحتاجه القرية للشرب والرى خلال شهور الجفاف. لا نزال في الهند، لكننا سنترك ذلك المهندس العبقرى الذي سلط الضوء عليه صديقنا المخرج برامود ماتور، لنتجه جنوبًا، فنجد امرأة عظيمة، لا يقل إسهامها لمجتمعها عما ساهم به مواطنها حامى المياه.
كان حظ الشابة صبحاشينى ميسترى Subhashini Mistry تعسًا، فقد ولدت إبان المجاعة التي أحاقت بالبنغال، وضيعت أرواحًا بالآلاف في جميع أنحاء الريف.
كان والدها مزراعًا صغيرًا لا يمتلك سوى رقعة هامشية من الأرض في قرية كولوا Kulwa على بعد ٣٠ كيلومترًا إلى الجنوب الغربى من كلكتا، غير قادر على إطعام ١٤ طفلًا، هم صبحاشينى وأخواتها، وبعد تجوال طويل وتسول الأرز من الكنائس، والصدقات من المنظمات غير الحكومية والمكاتب النظامية، فقدت زوجُه سبعة من أطفالها ماتوا خلال السنوات القليلة التي تلت ميلاد صبحاشينى. تتزوج صبحاشينى، وهى بعد طفلة، من عامل زراعى، يكافح لتغطية نفقات الأسرة، بينما تخدم ابنة الاثنى عشر عاما زوجها المتعب، وأربعة أطفال. لكن ذلك كله كان محتملًا حتى تقع الكارثة في عام ١٩٧١، حين شعر زوجها بألم شديد، ولم تمنحه مستشفيات المقاطعة سريرًا لأن الأطباء والممرضين رأوه شخصًا مفلسًا. ورغم أن ذلك المستشفى الحكومى كان عليه توفير خدمة مجانية للفقراء، فالواقع أن المرضى كانوا بحاجة إما للمال أو لأشخاص قادرين على إجراء الاتصالات اللازمة للحصول على العلاج، وقد أنهى الموت عذاب زوجها. بكت صبحاشينى على جثة زوجها الميت، ولكنها تغلبت على الحزن واليأس أمام أطفالها الجوعى، وهى ربة المنزل التي لم تتلق أي تعليم أو تدريب، وليس لديها مهارات خاصة، فقررت أن تحقق حلمها الكبير، كى لا يعانى أحد ما عانته. 
أدركت صبحاشينى أن توفير الرعاية الطبية الأساسية كان يمكن بسهولة أن ينقذ حياة زوجها الذي لم يكن يعانى إلا من نوبة التهاب معَوى، ولكن الفقر والعاملين في المستشفى القاسى قتلوا زوجها. 
كانت تلك اللحظة التي نذرت فيها صبحاشينى حياتها لبناء مستشفى للفقراء. 
بعد إطعام أربعة أفواه جائعة بفضل العمل كخادمة في خمسة منازل مجاورة حصلت صبحاشينى على ما مجموعه ١٠٠ روبية شهريًا. وحين شعرت أن ابنها آجوى يحب الدراسة أرسلته إلى دار للأيتام في كلكتا حتى يتمكن من الحصول على تعليم لائق، بينما كان الأطفال الثلاثة الآخرون يساعدون أمهم في الأعمال المنزلية. ثم اكتشفت السيدة النشيطة أن قطف وبيع الخضار من شأنه جلب المزيد من المال، فانتقلت إلى قرية دابا Dhapa حيث استأجرت كوخًا وبدأت بيع الخضار لتنمو تجارتها تدريجيًا. 
ولمدة عشرين سنة تلت، كبر المال المدخر، واشترت فدانا في قرية زوجها، وجمعت أهلها وقالت إنها تبرعت بهذا الفدان لبناء مستوصف للفقراء. تبرع الأهالي بمئات الروبيات، ومنهم من قدم بعض المساعدات العينية مثل خشب الخيزران، وسعف النخيل، وألواح الخشب، وتبرع الأكثر فقرا بالعمل المجانى، ليولد في ١٩٩٣ أول مبانى المستوصف على مساحة ٤٠٠ قدم مربعة. من الباب، توسل الجميع للقرى المجاورة للتبرع بالأدوية الفائضة، واستطاعوا التواصل مع الأطباء لتقديم خدماتهم المجانية مرة واحدة في الأسبوع على الأقل للفقراء والمحتاجين. ما حدث بعد ذلك أشبه بالمعجزة، ومن يرى مستشفى الإنسانية اليوم، بعد نحو ربع قرن، سيرى كيف منح حلم امرأة بسيطة الحياة للآلاف. وعاد ابنها، الذي درس الطب، لينضم إلى فريق المستشفى الحالى. هذه المرأة التي جمعت الروبيات البسيطة، مثل الرجل الذي جمع قطع الجليد، لقد آمن كلاهما أن بناءً كبيرًا يمكن أن يشيداه من جمع أجزاء فسيفساء صغيرة معًا.