الأربعاء 24 أبريل 2024
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي
رئيس مجلسي الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي

آراء حرة

المصريون وحكامهم "2"

تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق google news
لكن للمصريين مسلكهم الخاص، فهم يختزنون غضبهم ليتفجر فى موعده. ففتحى زغلول ممثل الادعاء فى محكمة دنشواى ظلت الكراهية تلاحقه أبدا. وعندما رقى وكيلاً للحقانية أقاموا له حفلاً لتكريمه وجمعوا أموالاً لإهدائه هدية ثمينة. فكتب أحمد شوقى رسالة إلى المحتفلين: «إذا ما جمعتم أمركم وهممتمُ**بتقديم شىء للوكيل ثمين- خذوا حبل مشنوق بغير جريرة**وسروال مجلود وقيد سجين- لا تقرأوا شعرى عليه فحسبه** من الشعر حكم خطه بيمين- ولا تنشروه فى شبرد بل أنشروا** على ملأ فى دنشواى حزين». أما زميله إبراهيم الهلباوى فقد ظلت الكراهية تحاصره حتى مات فلاحقه حافظ إبراهيم بهجاء مرير. قال فيه: «لا جرى النيل فى نواحيك يا مصر** ولا جادك الحيا حيث جادا- أنت أنبت ذلك النبت يا مصر** فأضحى عليك شوكا قتادا». 
وفى إحدى معارك الغزو الرومانى لمصر تواجه الجيشان، المصريون اصطفوا قبل خيوط الفجر، ثم استيقظ الرومان ليجدوهم هكذا، فاصطفوا هم أيضا فى انتظار هجوم المصريين الذين ثبتوا فى مكانهم كجدار صامت من البشر والسلاح والخيول، ناور الرومان قليلاً، لكن الجدار المصرى صامت لا يتحرك حتى الخيول لم تتحرك، الرومان لا يعرفون ماذا خلف الجدار الصامت فخافوا. أتى الليل وعندما عاد الفجر كان الجدار المصرى لم يزل بلا حراك. أما الرومان فقد انصرفوا. إنه واحد من أساليب الصمود الذى لا يتقنه غيرهم والذى قد يخدع الحاكم، فإن لمس جدار البشر انفجروا فى وجهه والبادى أظلم.
ومهما نافق المنافقون فى الإعلام أو فى دور العبادة أو فى التصرفات اليومية، فإن الضمير المصرى لا ينسى ولا يرحم، وسوف يعامل الجميع بقدر ما فعلوا «إن خيرا فخير وإن شرا فشر» فحذار.
والنكتة والشعر الهزلى والسخرية وإطلاق أسماء مضحكة على الحاكم أو الوالى كل ذلك كان سلاحا مصريا فاعلا، فالأمراء المماليك لكل منهم اسم يليق به ويورد ابن إياس فى «بدائع الزهور» أسماء، مثل الأمير سم الموت، وفار الشقوق، والفول المقشر، وحمص أخضر، وحداية، والمجنون، وخاير بك أسموه خاين بك، وأمير آخر سموه أبونبوت. خلاصة الأمر كان السلطان بعيدا، ولكن يده طويلة تأتى بأمراء سفاحين ولا حيلة للمصريين فى عزلهم فابتكروا طريقا لإسقاط هيبتهم ونزع الخوف من قلوب المصريين وإزاءهم، وكمثال آخر أراد السلطان الظاهر أبوسعيد خشقدم أن يعرب عن احتقاره لشأن هؤلاء المصريين المشاغبين فى همس مشاغب عبر النكتة وخيال الظل والشعر إلخ، فولى طباخة منصب الوزراء وكان اسمه البباوى، وخرج المصريون إلى الشوارع هاتفين وضاحكين «الزفر مسك الوزارة»، وتولى شعراؤهم باقى المهمة، فقال أحدهم قالوا البباوى قد وزر - فقلت كلا لا وزر، فالدهر كالدولاب لا يدور إلا بالبقر. وقال شاعر آخر: تجنب العلم والفضائل - ومل إلى الجهل ميل هائم، وكن حمارا مثل البباوى - فالسعد فى طالع البهائم. وفى مصر الحديثة كان نفس الشىء، فيعقوب صنوع كان يصدر مجلة زعم أن صاحبها اسمه أبونظارة زرقاء، وفى كل المقالات تردد اسمان «الواد الأهبل» و«الديك الرومى»، ومع التكرار ودقة الوصف عرف الناس أن الواد الأهبل هو الخديو، والديك الرومى هو رئيس وزرائه رياض باشا. واعتمد المصريون هذين الاسمين. ويروى جورج زيدان هذه الرواية ثم يتحدث عن مسرحية كتبها عبدالله النديم، وسماها «الوطن وطالع التوفيق»، وكون فرقة من طلاب مدرسة الجمعية الخيرية الإسلامية لتمثيلها»، وزاد تحدى النديم بأن دعا الخديو ورياض باشا لحضور حفل الافتتاح، ويقول «أما المسرحية فقد كان لها فى نفوس الشعب تأثير كبير بعد أن نبهت الأفكار وفتحت الأنظار، فقد نقد فيها العيوب الاجتماعية والسياسية، ووصف ما كانت عليه البلاد من فوضى واضطراب، وما كان فيه المصريون وما تحملوه من ظلم ومغارم» [زيدان- تاريخ آداب اللغة العربية].. وضحك الجمهور الحاضر كثيرا، وضحك توفيق أكثر حتى لفت نظره رياض باشا، فغضب الاثنان غضبا مدويا. ويعترف النديم بأنه لجأ إلى الرمز فى مسرحيته وفى كثير من كتاباته قائلاً: «من اعتمد على جواهر الألفاظ ولم يدرك ما قصدناه، تكثر اعتراضاته وتعز علينا مرضاته». ويستمر المصريون، يواصلون وهم يحملون فى يدهم سوط النكته والقفشة والشعر والرمز وخيال الظل، وفى كل مرة يقولون ما يريدون حتى يعتادوا على نقد الحاكم الظالم فيقللوا من خوف الناس منه. 
وكان فرح أنطون وهو عميد منتقدى الحكام فى مطلع القرن الماضى يصدر المجلة تلو الأخرى، وتصادر كل منها بعد مقالين أو ثلاث، حتى أصدر جريدة «الأهالى»، ودار حوار بينه وبين صهره نقولا حداد نشر فى ملحق مجلة السيدات والرجال ١٩٢٣.
■ نقولا: من الأفضل أن تخفف لهجتك حتى تسلم «الأهالى» من الإغلاق. 
■ فرح: نحن محاربون ولن نرمى سلاحنا أو نرفع العلم الأبيض.
■ نقولا: سيصادرون «الأهالى» ويمنعوك من إصدار صحف أخرى.
■ فرح: نكتب كتبا وروايات ونؤلف تمثيليات عن واق الواق والشعب ذكى يفهم.
أسمعتم أيها الكتاب والفنانون والأدباء والمسرحيون قولوا ما تشاؤون.. و«الشعب ذكى يفهم».