الجمعة 10 مايو 2024
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي
رئيس مجلسي الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي

آراء حرة

يسألونك عن "الدولة المدنية الحديثة" "2"

تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق google news
يجدر بنا ونحن نستهل حديثنا عن «الدولة المدنية الحديثة» أن نشير إلى جملة المقومات الأساسية اللازمة لبناء وترسيخ قواعد تلك الدولة، إذ تتضافر حزمة من المقومات، المتفق عليها وفق ما أسفرت عنه التجارب الدولية الناجحة فى هذا الشأن.
فى هذا السياق نؤكد على وحدة تلك المقومات، وتماسكها فى مواجهة ما سيواجهها حتمًا من محاولات مضادة تسعى إلى تأكيد مصالحها المنافية لقيم ومبادئ «الدولة المدنية الحديثة»، ذلك أن غياب، أو تغييب، أو تهميش أحد مقومات «الدولة المدنية الحديثة»، قطعًا ينتقص من خلاصة الجهود، ويشتتها بعيدًا عن أهدافها الوطنية الحقيقية، بل ويوفر لأعدائها مسارات يمكن من خلالها التشكيك فى جدوى السُبل المتبعة سعيًا نحو «الدولة المدنية الحديثة»، عساها تنجح فى تقويض الهمم الرامية إلى بناء «الدولة المدنية الحديثة»، وتفتيت ما تحتاجه من قواسم قيمية مشتركة، ليس إلا بها تصعد «الدولة المدنية الحديثة» إلى مرتبة الثقافة المجتمعية.
من هنا نقول إن الديمقراطية، والمواطنة، والحكم الرشيد، والاقتصاد الحر، تمثل الركائز الفكرية الأساسية الداعمة لكل مجتمع يسعى بجدية باتجاه بناء «الدولة المدنية الحديثة»، باعتبارها الصيغة العصرية لمجتمع متحضر يمتلك أدوات تقدمه ورفاهيته.
وكنت قد أشرت فى مقالى الأسبوع الماضى، افتتاحًا لحديث يطول عن «الدولة المدنية الحديثة»، أننى سأخصص مقال اليوم للحديث عن مساهمات الأطراف السياسية المتباينة فى محاولات بناء، أو هدم قواعد «الدولة المدنية الحديثة»، على الرغم من أنها كانت القاسم المشترك الذى ربط بين الجميع ونحن نستهل معًا انطلاقة الموجة التصحيحية الهائلة فى الثلاثين من يونيو. 
غير أن «استقالة» الدكتور خالد حنفى، وزير التموين والتجارة الداخلية، على خلفية قضايا فساد لم تزل قيد التحقيقات، أظن أنها مناسبة مقبولة تفرض علينا طرح بعض الملاحظات التى تشير بوضوح إلى وضعية «الفساد» فى «الدولة المدنية الحديثة»، عسى أن ندرك معًا موقعنا الحقيقى على الطريق الطويل الشاق، ونحن نبنى «دولة مدنية حديثة»، نتطلع معها إلى تحقيق الطموحات الشعبية المشروعة التى أعلنتها ثورة يناير المجيدة، وأعادت التأكيد عليها الملايين الثائرة فى الموجة التصحيحية الكاسحة فى الثلاثين من يونيو. وعليه أقول:
- لا تخلو «الدولة المدنية الحديثة» من الفساد، إذ الأخير لا يمكن استبعاده تمامًا من كل عمل بشرى، مثله فى ذلك مثل الخطأ تمامًا. وبالتالى فظهور قضايا فساد، خاصة التى تهدر المال العام، أمر لا يقلل أبدًا من فرصتنا فى بناء دولة مدنية حديثة، بل ربما العكس يكون صحيحًا، إذ يشير ذلك إلى قدرتنا على كشف الفساد ومحاسبة المسئولين عنهم، ومن ثم تصحيح الأخطاء.
- غير أن «الدولة المدنية الحديثة» لا يمكن أن تفتقر إلى أدوات واضحة ومحددة وصارمة فى محاربة الفساد، بالتالى فإن الكشف عن الفساد لا يمكن تركه للمصادفة، مثلما هو أمر غير قابل للمساومة، أو التحايل، أو المقايضة.
- «الشفافية» سمة أساسية فى منظومة الحكم الرشيد اللازمة لبناء «الدولة المدنية الحديثة». وربما يجدر بنا هنا أن نشير إلى أن الشفافية المقصودة هنا لها مفهوم واسع أكبر من مجرد الكشف عن قضية فساد، أو أسماء المتورطين فيها، بل ينسحب الأمر إلى محاور شتى، لعل أهمها إتاحة المعلومات، وحرية تداولها، وصيانة واحترام حق الرأى العام فى المعلومات الصحيحة، وفى التوقيت المناسب، مثلما يفرض الأمر أيضًا حرية الرأى والتعبير حول ما يتم تداوله من معلومات. 
- فى هذا الخصوص نشير إلى أهمية خفض منسوب مستوى القضايا المحظور نشرها على الرأى العام، وإعادة تقييم المعلومات الممنوع نشرها بدواعى صلتها بالأمن القومى، فربما وجدنا بها ما يلزم أن يُلم به الرأى العام تحقيقًا لتماسك الجبهة الداخلية فى مواجهة قضاياها الأساسية، وهى، فى ذاتها، ضرورة من ضرورات الأمن القومى.
- لا يضير الحكومة أبدًا أن يخرج من بين أعضائها بعض الفاسدين، ففى ذلك إشارة ينبغى قبولها على نحو إيجابى، باعتبارها حكومة لا تستعصى على المساءلة، وتملك شجاعة كشف ما بداخلها من قصور أو فساد. غير أن الأمر يؤكد أننا بحاجة إلى تطوير وسائلنا المستخدمة فى تقييم المرشحين للعمل القيادى العام.
- فى الإطار نفسه، واحترامًا لقيم الحكم الرشيد المُشار إليها عاليًا، ليتنا نقلع عن فكرة «استقالة» الوزير المقال فعلاً! إذ لا يعبر ذلك عن قناعتنا بأن القيادى فى العمل العام ما هو إلا خادم للشعب، ومن ثم فإن «إقالته» حق للشعب، وتأكيد على قدرتنا على مواجهة كل قصور بعقول مفتوحة لا تستتر وراء شعارات براقة فقدت مصداقيتها لدى الناس، ذلك أن الكل يعلم أن لا وزير يستقيل عندنا برغبته أبدًا، بينما الحكومة تتجمل «فتستقيله»!. فإذا كان بعض الوزراء خرجوا من الحكومة إلى السجون، فأى ضرر يعيبهم بعد ذلك إن قلنا الحقيقة أنهم أقيلوا، فواقع الأمر أن تجميلًا بالاستقالة لا يشفع لهم عند الرأى العام.
- فكرة سيادة القانون، فكرة سائدة بلا شك فى «الدولة المدنية الحديثة»، وهى أيضًا من محاور منظومة الحكم الرشيد. غير أن تمكين القانون يظل عبئًا لازمًا للمجتمع الساعى بقوة نحو بناء «دولة مدنية حديثة». وتكمن فكرة تمكين القانون من وجود منظومة تشريعية متطورة قادرة على ملاحقة كل تطور ينشأ فى الجريمة بشتى أشكالها، وتجفف منابع الفساد، وتسد الثغرات التى تشوه ثوب العدالة وتشيع الأمل فى النفوس الفاسدة لتجتهد تحايلًا على القانون. 
- تشير الفقرة السابقة إلى خطورة الدور المنوط بالبرلمان، إذ على عاتقه يقع عبء إنتاج ثورة تشريعية تتوافق ومجمل التغيرات الجذرية التى أحدثتها الثورة المصرية فى المجتمع، فليس من شك أن الفساد يفقد أهم ركائزه متى تحققت العدالة الناجزة التى تعمل على إشاعة الثقة فى الدولة ككيان قادر على حماية تطلعات الشعب نحو حياة كريمة حرة.
- على نحو ما سبق، لا يجد الفساد مُستقرًا فى «الدولة المدنية الحديثة»، إذ يتواجد فيها على سبيل استثنائى، دون أن يصبح ثقافة راسخة تصعب محاربتها عبر خطاب دعائى، ومؤتمرات لها شعارات براقة رنانة، بينما الفساد يتشعب ويتعمق حتى بات يمثل خطورة حقيقية على جهودنا التنموية الواسعة النطاق، وبالتالى عائقًا حقيقيًا أمام فرصتنا فى إنتاج «دولة مدنية حديثة». وليس جديدًا أن نشير إلى فعالية الفساد فى هروب الكثير من الاستثمارات العربية والأجنبية من قبول ما تعرضه مصر من فرص استثمارية بالفعل واعدة، لكنها لا تخلو من فرص متنامية للفساد.
وإلى الأسبوع القادم بإذن الله، نستكمل معًا رصد فرصتنا فى بناء «دولة مدنية حديثة»، بها، وليس فى غيابها، نحقق بحق مبادئ وأهداف الثورة المصرية.