الجمعة 26 أبريل 2024
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي
رئيس مجلسي الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي

آراء حرة

نهر الراين

تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق google news
للأنهار جمال خاص يختلف عن جمال البحار والمحيطات.
أول مرة دخلتُ فيها هولندا كانت من خلال نهر الراين، كان الجو شديد البرد، بينما كنت فوق سطح سفينة تبحر فيه ببطء. رأيت حينذاك من مظاهر الجمال التى تحاكى الخيال ما جعلنى أشعر أنى فوق بساط تحمله الريح فى سماء أحد بلاد الأساطير.
فماء النهر شديد الصفاء وناعم السطح كالمرآة.. يشعرُ من يراه كأنه صائمٌ عطشان يود لو سمع المؤذن يؤذن أذان المغرب ليملأ منه كف يده ويشرب منه بفمه، والمنحدر المؤدى لمجراه مبلط بأحجار ملساء ناصعة البياض، تنبت فيما بينها حشائش شديدة الاخضرار، وتبدو بشكل عام وكأنها تشققات خضراء فى تُربة بيضاء، أو كأنها تُربة فاقعة الاخضرار نبتت فيها الأحجار الناصعة البياض.
وعلى كل جانب تمتد من بعد الشاطئ حقول خضراء مترامية الأطراف تلتقى بعيدا هناك فى الأفق مع السماء، وتتجمل فيها النباتاتُ التى تشغل الأبصار بأروع الأزهار، وتقف فيها طواحينُ هواء آية فى هندسة البناء تدور مراوحُها بصورة تُسحر الألباب، ومصانعُ جميلة البنايات بديعة الواجهات ملونة بكل الألوان التى تحاكى ألوان الأزهار، ولها مداخن شديدة الارتفاع كأنما تناطح برؤوسها السحاب وألوانها تسُر الأنظار، وتعبر من فوقها سابحة فى الهواء طيورٌ مختلفة الأنواع والأحجام والألوان فى صورة أسراب لا يصدر منها أى أصوات، وتبدو المداخنُ للناظر كما لو كانت تشارك بصمت من دون كلام فى احتفال أو كرنفال.. إذ يخرج منها دخان يصعد ببطء فى السماء المزينة بالسحاب والركام فيزيدها جمالًا فوق جمال، لونه إما أصفر أو أحمر أو أبيض أو أزرق أو أسود.
ويرى المبحرُ فى النهر أن مجراه يتسع ثم يضيق ثم يتسع مرة أخرى من جديد أثناء الإبحار، وفى جوانب مناطق الاتساع تلفتُ الأنظارَ لمَسَاتُ جمال، كجُذر صناعية تحيط بها مياه النهر الجارية، وتنبت فيها نباتاتٌ وأزهار يعيش بينها بَط محب للماء، أو بحيرة صناعية صُممت بصورة دائرية محيطها شريط من تربة الأرض تحيط به مياه النهر وتكسوه حشائش خضراء.. وتعيش فى تلك البحيرة بجعات بيضاء، لا أدرى من عَلمَها أن تبقى فى دائرة البحيرة لتضفى عليها مزيدًا من الروعة.
وبينما تبحر السفن واليخوت فى ذلك النهر ببطء فى جو رائع من الصمت.. قد يسمع المرء صوت سارينة لسفينة ويستمر لثوانٍ قليلة فيثير فى القلب أحزانًا عجيبة.. ولست أدرى لماذا تولدُ الأحزانُ فى بعض الأحيان من أرحام مظاهر الجمال وبطون مواطن الإسعاد؟!
وقد ينزل من السماء ماءٌ كالرزاز فيشغل بروعته الأذهان والأبصار، ويجعل من كل الأشياء المرئية أكبر لوحة تجريدية بدون برواز ومتناهية الأبعاد، تفيض بالأحزان والألغاز، وتقفز منها علامات التعجب والاستفهام، وتلمع فيها أشياءُ غسَلها الماءُ توحى للأنظار بأنها مصادر إيحاء وينابيع إلهام. وتبدو فيها أشياءُ من خلف ستار الرزاز الشفاف آيات فى الحُسن والجمال.
وفجأة يرى المبحرُ طائرَ نورس يهبط بسرعة وخفة حتى يغطس رأسُه تمامًا فى الماء، ويلتقط سمكة بسرعة ويطير مرة أخرى وسط الرزاز، ويحلق أمام السفينة لفترة قصيرة، ثم يقطع المسافة بينها وبين طاحونة بعيدة طائرًا فوق الحقول الجميلة ويحلق فوقها لفترة وجيزة، ثم يعود إلى النهر أمام السفينة ويفعل فعلته الأولى.
فى زمن مضى قبل أن يتم تعميق المجرى من أجل عبور السفن الكبيرة الحجم.. كان السكان المطلون على ذلك النهر، والسياح الذين أتوا إليه من كل صَوْب يتفاءلون بالبحث عن شظايا الذهب فى ثنايا الحصى والدبش الذين يحركهما النهر فى قاعه عند ارتفاع منسوبه.. ويفرحون فرحة كبيرة إن عثروا على كميات منه ضئيلة.