الأحد 28 أبريل 2024
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي
رئيس مجلسي الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي

ثقافة

حثالة فتوات محفوظ.. عالم من الشر

البوابة نيوز
تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق google news
تظل الحارة التي رسم ملامحها وخصوصيتها الأديب العالمي نجيب محفوظ ذات رونق خاص وتميزها، وعالمها الخاص والغريب، ويبقى خالدًا فيها مشهد الفتوة الجالس وحوله أتباعه، وكل منهم ممسكا بنبوته، استعدادًا لمعركة جديدة مع فتوة حارة مجاورة، ويجلس الحرافيش يحكون أخباره في سهرات الغرز بينما يقرع الجميع كيزان البوظة، ليبرهن كلٌ منهم على رجولته، وغيرها من تفاصيل الحارة السحرية التي ترسخت في ذاكرتنا.
الجميع اهتم بفتوات محفوظ كرموز للعدالة والخير، لكن لا أحد توقف عند من أقام هؤلاء العدل في مواجهتم، هؤلاء الفتوات الذين عاشوا من البلطجة والفساد وأقاموا سلطتهم على عرش الخوف، الأسماء التي كانت الحارة ترتعد من أصحابها لمجرد المرور بجوارهم، هؤلاء الذين كان يتجمع الحرافيش حولهم ليهتفوا "اسم الله عليه"، ثم يأتون مع كل وافد يحمل الأمل ليهدموا من رفعوه على رءوسهم قهرًا ويركلوه وهم يصيحون بالعبارة نفسها.
هؤلاء الطغاة، الذين صنع ظلمهم داخل حواري محفوظ رسّختهم الحكايات التي نستمتع بها حتى الآن، كان أولهم "درويش" الذي نشأ مع عاشور الناجي، ومنهم "الفللي" الذي ذبح فتاة للتخلص من حفيد الناجي الحالم بالفتونة، و"سماحة القبيح" الذي تخلى عن حلم جده وصار ظالمًا حتى مع أخيه الوحيد، و"حسونة السبع" آخر فتوات ملحمة الحرافيش؛ هناك أيضًا "الشبلي" الذي رسم محفوظ ملامحه بجدارة في "الشيطان يعظ".
درويش زيدان.. الشر المُطلق:
كما كانت افتتاحية بطولات "الحرافيش" التي صاغ ملحمتها نجيب محفوظ الفتوة العملاق "عاشور الناجي" صاحب الحلم والنبوءة والنجاة، والذي صنعته حكايته أسطورة من العدل حلم بها الحرافيش حتى آخر عهد الفتونة، نشأ في البيت نفسه نقيضه "درويش"، الذي صاغه محفوظ لتتجسد فيه جميع المعاني الشيطانية، حتى أن الكثيرين ربطوا إسقاط الاسم بين "درويش" في الحرافيش و"إدريس" في "أولاد حارتنا"، ليُصبح كلاهما مُرادفًا للشيطان نفسه.
"درويش" هو شقيق الشيخ "عفرة زيدان"، الأعمى الذي استقبل "عاشور" وهو لا يزال رضيعًا مُلقى أمام التكية فصار والده بالتبني، ونشأ مُدللًا فاسدًا رغم محاولات أخيه الصالح لتربيته كما نجح مع ربيبه عاشور؛ إلا أن إيثار أخيه وزوجته لليتيم الذي كان عضدهما بدلًا منه، كان دافعًا ليكره درويش عاشور، ويُلقي به في الشارع فور وفاة الشيخ عفرة، بعد أن فشل في إقناعه بمعاونته على السرقة.
زاول درويش عمله الحرام وهو يضع ربيب أخيه نصب عينيه، مارس قطع الطريق وهو يتحاشى عاشور، الذي رآه يتوسع في أعمال الغرزة التي فتحها في الحارة، والتي شملت كذلك شرب البوظة والدعارة، ليُصبح مكان درويش هو بؤرة الفساد بالحارة التي جذبت إليها أبناء عاشور الرجال حتى منعهم عن ارتيادها بالقوة.
وكانت نجاة عاشور الأسطورية من الوباء تتوازى مع دخول درويش السجن لينجو هو الآخر، ويلتقي كلاهما بعد أن أصبح عاشور هو سيد الحارة، وكأي شيطان يجد ثغرة للنفاذ ساوم درويش عاشور بأن يغض الطرف عن استيلائه على ممتلكات أحد الوجهاء في مقابل تركه لأعماله القذرة بالحارة، واستطاع أن يزج بعاشور في السجن، ليتولى الفتونة لفترة قصيرة حتى خروج عاشور.
وكما جاءت شخصية درويش في افتتاحية ملحمة الحرافيش كمثال للشر المطلق، ونموذج للشخصية ذات البعد الواحد، وكرمز آخر لاستمرار الصراع، لم يذكر محفوظ كيفية موت درويش، وإنما جعله يختفي من الحارة فجأة وكأن لم يكن.
الشبلي.. خان من لجأ إليه:
ظهر في قصة "الرجل الثانى" في المجموعة القصصية "الشيطان يعظ"، والتي تحكى عن "شطا الحجري"، الشاب الحالم دومًا، والذي يمُنّي نفسه بأن يصبح الرجل الثاني لدى المعلم "الديناري" فتوة الحارة، ولكن يسير في طريقه على غير هدى مسلوب الإرادة، فيعشق "وداد" خطيبة الديناري، ويقرر الهروب بها من حارته التي يحكمها الديناري إلى حارة "العطوف" التي يحكمها فتوة آخر هو "الشبلي" الذي يُناصب الديناري العداء، وكان يعمل خادمًا لديه من قبل، وطرده الأخير من الحارة.
الشبلي عملاق آخر فرض قوته على العطوف عن طريق مجموعة من الحثالة صار زعيمهم، فرضوا سطوتهم على المحال والبشر وجمعوا الإتاوات، فصار طريد الفتوة الديناري هو سيد حارة العطوف الذي لا يذكر من الفتونة سوى تحصيل الإتاوة وإذلال الخلق، ولا يختلف الشبلي عن الديناري وهو ربيبه، كلاهما يتمتع بنفس المقدار من القسوة والظلم، فكان شطا البائس كالمستغيث من الرمضاء بالنار، حيث ظهر له جانب الشبلي الذي لم يضعه في حساباته، فهو مثال الخسيس والنذل الذي لا يؤمن من استجار به، وتعميه رغبته القديمه في الانتقام من معلمه السابق عن مبادئ الفتوات التي خلّدها نجيب محفوظ في رواياته مجتمعه.
ولأن المرأة أعجبته، وبمنطق الفتوة الذي يرى أن الجميع يخضع لسلطته، يقرر الشبلي الانتقام من الديناري في خطيبته السابقة، ويغتصبها بينما يتكالب رجاله على زوجها المسكين يُشبعونه ضربًا وسخرية، ويمنعوه من الوصول إلى معلمهم الذي يغتصب زوجته في سريره، وتعلو ضحكاته وهو يعبر عن استمتاعه بما يفعل وكأنه يرى الديناري هو الذي يتألم وليس خادمه السابق.
لم يعبأ الشبلي بالفتى الذي عاد مُنكسرًا إلى أهله ورجى من معلمه السابق الديناري العفو، وصار اغتصاب زجته أمام ناظريه حكاية أخرى يرويها وهو يشرب البوظة في الغرزة، واستقبل طلب الديناري بتحديد موعد لمعركة يرد بها شرف المرأة باستهانة، وهي المعركة التي لقي فيها حتفه على يد الزوج المكلوم.
الفللي.. شيطان ذو ألف عين:
الفللي هو الفتوة الجديد الذي خلف "زاهي عتريس" الذي انتقل إلى الآخرة، أحاط نفسه بعصابة كبيرة، انضم لها سماحة الناجي- حفيد أسطورة الفتونة عاشور الناجي- وعندها اعتبر الفللي أن انضمام واحدًا من أحفاد عاشور الناجي إلى رجاله طورًا جديدًا وأكبر انتصار له في الحارة كلها؛ ورآه الناس مشهدًا يُزيد من حياة البؤس في الحارة، تزيد من حالة الظلم للحرافيش في الحارة بعد العدل الذي شهدوه على أيدي آل الناجي.
كان الفللي كما وصفه خضر الناجي هو شيطان ماكر، له ألف عين في الحارة، يسيطر عليها بقضبة من حديد ويضمن ولاء أتباعه، وكانت جلسة الغرزة هي ديوان ملكه، حيث كان يتربع على أريكته مُحاطًا برجاله حمودة ودجلة وعنتر وفريد الذين لا يترددون في تنفيذ أوامره، لم يأمن لآل الناجي، إلا أنه كان ينادي على سماحة بلقب سيد الكل، كان يحصي على سماحة الناجي أنفاسه، وكان يرحب به وهو متربع وسط أقوى أعوانه في غرزة "ترباسة" بقوله " أهلًا بالناجي سيد الكل"، وطواه تحت جناحه وأطلق من يحصى عليه الحركات، ولكن كان سماحة يمثل دوره كما ينبغي.
وبينما كان سماحة يُخطط للزواج من مهلبية ابنة صباح كودية الزار، كان الفللي يجعلها الحبل الذي طوق به رقبته، عندما أخبره بأنه يُريدها لنفسه واختاره أن يذهب ليخطبها، وكان الفللي يعلم نوايا سماحة في الاستقلال، وكان من الجبروت بحيث جعل الأم المسكينة تبوح له بسر هروبهما بعيدًا عن قبضته، فاختار توقيت هروب سماحة وحبيبته، وأرسل رجاله لقتل الفتاة ولصق به التهمة، ليحيا سماحة بقية حياته مُطاردًا، بعد أن شهد رجال الفللي أنه القاتل.
ولم يكتف الفللي بما فعله مع سماحة، بل انتهز الفرصة كذلك ليقوم بإذلال آل الناجي كما لم يحدث لهم في الحارة من قبل، ففرض عليهم إتاوة إضافية وأجبرهم على الحياة بانحناء إلى أن غادر الدنيا في هدوء كالفتوة السابق.
سماحة القبيح.. صانع المجاعة:
هو الآخر يحمل اسم واحدًا من أجداده الذين ألقوا بسيرتهم في ملحمة الحرافيش، لم يكن عملاقًا كجده الأول، لكنه كذلك راوده حلم السيادة، تحالف مع آخرين لإسقاط أبيه الفتوة السابق؛ وكانت بدايته مع الطغيان عندما خاض معاركه التي ترك كلٌ منها نُدبة لا تُمحى، حتى صار يُعرف في الحارة بـ"سماحة ذو الوجه القبيح"؛ عندها بدأ جبروته بالاستيلاء على ميراث أخيه فتح الباب ابن زوجة أبيه سنبلة بنت الكلبشي، عقابًا لها على تركه يحتضر وحيدًا.
تردد سماحة بين أريكة الفتونة والغرز وبيوت العاهرات، وتزوج من فتاة تنتمي هي الأخرى إلى سلالة الناجي واضعًا يده على جمالها وثروتها الكبيرة، فأصبح مدير لمحل الغلال التي تملكه، ويُدير منه شئون الفتونة والتجارة التي كان يسرق منها لنفسه ومحظياته يومًا بعد الآخر، وعلمته التجارة حب المال، فانطلق يُسيطر على أموال الناس ويجمع الأشياء الثمينة.
كانت الفرصة الوحيدة التي أعطاها سماحة لأخيه هو أن يعمل في ماله المسلوب، فألحقه مساعدًا لأمين مخزنه مُطمئنًا أن الفتى الهزيل الذي يحلم بسيرة عاشور الناجي لن ينقلب عليه كما فعل مع أبيه؛ وهناك رأى الفتى أخيه وفتوته الذي استغل الفيضان الشحيح وملأ مخازنة بكافة صنوف الغلال بينما يتخبط الحرافيش في الحارة بحثًا عن لقمة كان الفتوة ينعم في الخيرات ويتفقد مخازنه التي امتلأت عن آخرها، وبدا ذلك في زفاف ابنته التي كان الحرافيش يقتلون بعضهم على موائده.
وبينما يفرض سماحة طغيانه على الجوعى، بدأ الحرافيش يتهامسون عن عودة عاشور الناجي فأطلق رجاله بوحشية لقطع ألسنة المتحدثين، حتى انتهى به البحث ليجد أخيه الضئيل هو الذي يسرق الغلال ويلعب دور عاشور حتى تستيقظ الحارة لمواجهة ظلمه، فقبض عليه وعلّقه ليكون عبرة، لكن إنقاذ الفتى جاء على يد الجوعى الذين ثاروا في وجهه إنقاذًا لمن أحيا بداخلهم أسطورة الناجي، وينتهي ذو الوجه القبيح على يد من ظلمهم.
حسونة السبع.. آخر الحثالة:
هو آخر الفتوات الحثالة في حارة عاشور الناجي، عُرفت حكايته بـ"التوت والنبوت"، ورغم أن مواصفاته الجسمانية كانت أقل من أي فتوة آخر، لكنه في الوقت نفسه كان شديد العصب، ليس من السهل أن يتعصب، وكان يخشى المؤامرات والدسائس، وطيلة الوقت كان يحتمي بأتباعه، واعتاد دومًا أن يأمر فيُطاع، وكان يستغل حتى أفقر الفقراء.
ولم يكن السبع في حالة من التفاهم حتى مع نفسه، فعرفته الحارة بأنه كالعاصفة التي تدمر في طريقها كل شيء، لم يكن يستثني في الظلم أحدا إلا من يدفع له أكثر، وكانت أحكامه تأتي حسب هواه دون أن يستشير أو يأخذ رأيًا إلا ويعلم جيدًا أنه يتفق مع هواه، وأغدق على تابعيه ورجاله الأموال والامتيازات، وعزلهم عن بقية أهل الحارة ومنعهم من الاختلاط بالناس، ولم ينس قط ثورة الحرافيش التي قادها فتح الباب على أخيه ذي الوجه القبيح، فكان أول ما فعل هو أن ابتعد عن الحرافيش مُحصنًا نفسه في أحد الأزقة.
ولم يفت الفتوة السبع أن يقوم بالتنكيل بآل الناجي بين الحين والآخر كعادة الفتوات، حتى لا يبرز له واحد من هذه السلالة التي تحلم بعودة مجدها القديم يومًا، وجاءته الفرصة عندما اتهم موسى الأعور صاحب الكارو فايز الناجي بسرقة حماره والفرار من الحارة، عندها قام بالتنكيل بأخويه ضياء وعاشور، وأمرهما مع أمهما حليمة البركة أن يدفعوا ثمن الحمار إلى الأعور، مع الاحتفاظ بنصيبه، ورغم أن حليمة كانت تؤدي الخدمات في داره بلا مقابل، لكنه انتهز تأخرها ذات يوم وقام بصفعها أمام الحارة.
لم يكن السبع ذا شرف أو كلمه يركن إليها، ولكن جاءت نهايته هو الآخر على يد ثورة الحرافيش التي نظّمها عاشور الأخير، الذي كان يُشبه جده الأول حتى في جسده العملاق، الذي نظّم الحرافيش وجعلهم قوة كبيرة هاجمت عصابة السبع وأجهزت عليهم من الحارة كلها.