السبت 27 أبريل 2024
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي
رئيس مجلسي الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي

ملفات خاصة

مفاجأة.. لا أحد في الهند يعبد البقر

«» تشهد الاحتفال بعيد ميلاد الإله فى «نيودلهى» و«مومباى»

صورة أرشيفية
صورة أرشيفية
تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق google news
كنت فى الطريق إلى مدينة «شيملا»، جنوب الهند، حيث لا عرب، ولا تشدّد دينيا، ولا فقر ومتسوِّلين فى الشوارع، هى مدينة الهنود الأعلى دخلًا، والأغنى، ولها اهتمامات سياسيّة، وأحزاب معارضة، وتمثال لـ«غاندى» هو الوحيد الذى وقع فى مسيرتى حول الهند خلال طوافى بسبع مدن متنوعّة ما بين «دهرمشالا»، منفى دلاى لاما، نبيّ البوذيين الروحى، و«كاسول»، مدينة إسرائيل الصغرى، التى لا تعرف الاختلافات السياسية، والدينية، إنما تدمن الحشيش، و«جايبور»، مستعمرة القرود والأفيال فى إقليم «راجستان».
فى «شيملا» كانت الشوارع ضيقة، وعقول الهنود واسعة، الطبيعة السياسية للمدينة تشبه الشوارع، فهى عبارة عن سلالم، وممرات مائلة أعلى جبال الهيمالايا، والأحزاب أيضًا فى حالة «صعود وهبوط». 
وصلت من القاهرة محمَّلًا بتصورات عن السياسة فى الهند، فالشعب متفرِّغ للجرى وراء رزقه، وآلهته التى عجزت عن عدَّها، ولا أحد يفكر فى السياسة، خاصة أن المواطن الهندى مطحون، تركت له حكومته الشارع للتجارة، والبيع والشراء، وعمل أى شيء وكل شيء -فى حدود- لتحسين أوضاعه وزيادة دخله مقابل أن يترك لها السياسة، والحكم. 
وهى حالة متوفرة فى نيودلهى العاصمة، المواطن مهزوم، والحكومة تمارس أعمالها بهدوء، قليل من الاحتجاجات العمالية فى وسط البلد، ولا أكثر من ذلك.. ولا أحد يريد شيئًا منها إلا أن تتركه يبحث عن «لقمة العيش» الرخيصة، فالناس أغلبها نباتية لأسباب دينية، والوجبة سعرها ٤٠ روبية (٦ جنيهات)، ومعدَّل الدخل الشهرى للفرد ١٠ آلاف روبية (١٥٠٠ جنيه)، والأسرة كلها تعمل، الأب صاحب مطعم ويديره، والأم تطبخ، والابن يعجن الخبز الهندى، والبنت تنظف، أو الأب سائق أوتوبيس خاص، والابن تبَّاع.. الكل هناك عنده وظيفة.. فلا أحد متفرغا للسياسة، أو الكلام عن الوزراء والحكومة والرئيس، لهذه الأسباب.. لن تجد أحزاب معارضة فى نيودلهى، لكن ما جرى فى «شيملا» كان مختلفًا.
أمام معبد هندوسى ضخم وعتيق فى حضن الجبل، دعا قيادى بالحزب الماركسى الهندى إلى وقفة احتجاجية تطالب بعودة الشيوعية إلى الجنود كما هى غالبة بالشمال، ووقف يهتف فى ميكروفون بينما مجموعات من أعضاء ومريدى الحزب تلتف حوله بعلم أحمر يشبه الراية الشيوعية، ولمدة ساعة كانت الهتافات عالية بلغة هندية قال لى أحدهم إنها قديمة وتقليدية مقتبسة من هتافات لـ«نهرو» لا تميل لمناصرة الشيوعية بقدر ميلها لمهاجمة الحزب الأكبر، الحاكم، باهاراتيا جاناتا، الذى يعتبرونه طائفيًا لأنه يستعطف بخطاباته وسياسته المسلمين والفقراء.
لماذا؟.. لأنه يستقوى بهم على الطبقة الغنية، التى تعيش فى الجنوب من خير السياحة، ودخلها بالدولار واليورو، وتميل فى ولائها لدول أخرى.. إسرائيل تحديدًا.. وأغلب أهلها يتعاملون مع المصريين بعداوة رغم أن الإسرائيليين يحاولون استعطافك، والقرب منك فى الشوارع والكافيهات والمطاعم.
وحين تسأل الإسرائيلى الذى يريد أن يتعرف عليك: من أين؟ ما جنسيتك؟.. الإجابة السريعة والجاهزة التى تجرى على لسانهم جميعًا: أنا جارك.. خمّن. 
أغلب الهنود لا يعرفون مصر، ومن يذكرها فقط لأنه يعرف أنها عدوة زائره الأول، السائح الإسرائيلى، وعلى طريقة «الملكى أكثر من الملك» لا بد أن يكرهك.. لأنه يعتقد أن ذلك يزيد من رصيده عند الآخر، القادم من «تل أبيب». 
بعد ساعة من مظاهرة الشيوعيين بالأعلام الحمراء.. كان الأمن على بعد خطوات، على ناصية الشارع، ملتزما بالحدود الآمنة لجميع الأطراف.. للأمن، الذى لا يريد أن يتعرض لمضايقات رغم أن الهنود فى حالة سلام، وللمتظاهرين، الذين لا يريدون لأحد أن يخترق صفوفهم، أو يفرقهم، أو يشغل قائدهم، الذى يرفع الميكروفون، وبعد ساعة بدأت حملة منظَّمة من الأمن للاقتراب منهم، وإبلاغهم أن الوقت المسموح للوقفة انتهى، ولا بد أن ترحلوا، ودوَّت صافرة مزعجة تشبه صافرات تنبيه الغارات الجوية فى الحروب القديمة.. كانت معتادة بالنسبة لأهل المدينة.. تشير إلى أن الجميع لا بد أن يتفرَّق منعًا لاستخدام القوة فى تفريق المتظاهرين. 
والقوة هنا مفرطة إذا تمّ استخدامها فى حالات شاذة، لكن رجال الأمن لا يميلون لها، فالسلام والهدوء أفضل. 
صادفت القوة المفرطة مرتين، الأولى فى كشمير، لمواطنين يريدون أن يشتبكوا مع الأمن وسط حالة حرب باردة مع باكستان تم منع السياح من دخول المدينة الحدودية بقرار جمهورى بعدها (وهذه مغامرة أخرى ستروى فى الوقت المناسب). 
المرة الثانية كانت قرب محطة قطارات نيودلهى، حين دخل متسول المحطة طالبًا نفحة من ركاب القطارات المميزة، وتعلق بقدمى أحد السياح حتى شلّ حركته، فاعتذر له رجل أمن، وطرد المتسوِّل، وسدَّد له ضربات «قوية وغشيمة» بقدميه فى مناطق متفرقة من جسده حتى ضربه بالبيادة تحت الحزام وتركه شريدًا فى الشارع وسط مراقبة وصمت من الجميع.. فلا أحد يستطيع أن يتدخل، ليس فقط لأن المتسول أخطأ، إنما لأن طبيعة الهنود طيبة ومسالمة وقلقة وخائفة.. فالمواطن الهندى فى حاله مهما وقعت كوارث حوله.
عيد ميلاد الإله
طوال الطريق من أى مدينة إلى مدينة أخرى، إن لم يكن جبليًا، سترى مجموعات منظمة ترتدى زيًا واحدًا، وتسعى حاملة تابوتا وتمثالا يرمز إلى الإله.. أو يرمز إلى حيوان مقدس من حيواناته، أو أحد مساعديه، فالهندوسية مقسومة إلى عدة طوائف وطرق وجماعات، لكل مجموعة احتفالات ومهرجانات وصلوات وأعياد ورقصات وموسيقى خاصة. 
وفى مصر تصوّر خاطئ يقول إن الهنود يعبدون البقر.. لكن الحقيقة أنه لا أحد يعبد البقر، هم فقد يحبونه، ويقدِّسونه لأن الإله الكبير، الذى يدعى كريشنا، أوصى به خيرًا. 
يتقرَّبون إلى الإله بتقديم وجبة الإفطار إلى بقرة، وإشعال النار تحت رأسها، وهناك من يقدّسونها بصورة أقل، وتحديدًا فى مدينة «كيرلا»، التى تشحن إليها لتذبح بالرغم من أن قوانين العاصمة، نيودلهى، تمنع ذبح البقر. 
ورغم ذلك.. تحول تقديس البقر من عادة هندوسية، وفريضة دينية، لأنها رمز الخير ومصدر اللبن، وحمايتها واجب على كل هندوسى إلى طقس وطنى، يسعى إليه المسلمون والسيخ والمسيحيون أيضًا، ولذلك قال عنها «غاندى»: «هى أم الملايين من الهنود، وحمايتها تعنى حماية كل المخلوقات.. فالبقرة أفضل من أمهاتنا».
زيارة السيسي للهند
بعد ساعات من عيد استقلال الهند (١٥ أغسطس) دعا الرئيس براناب مخرجى نظيره المصرى عبدالفتاح السيسى لزيارة الهند وتقرَّر أن تكون فى الأول من سبتمبر.
موعد الزيارة بعد أيام من عيد ميلاد الإله الأول والأكبر، كريشنا، الذى يقع معبده المسمّى «أكشردام» فى نيودلهى، وله معبد رئيسى آخر فى «مومباى»، ويحجّ إليه أغلب الهندوس يوم الميلاد.. وفى احتفالات أخرى.. ومن قداسة الإله، الذى يعبده ٨٠٪ من الهنود (مليار نسمة تقريبًا)، بعد منتصف أغسطس من كل عام، حين ولد سرًا، وبقى ميلاده سرًا، وتعذب فى حياته.. وقصته تشبه آلام المسيح!
«كريشنا» تعنى «الأسود المظلم»، ويرسم على شكل راعى بقر يعزف الناى ويحارب ويقدم أفكارًا فلسفية تليق بأحد آلهة الحضارة الهندية القديمة ووجهه على شكل «فيل بزلومة»، وكان له أكثر من ١٦ ألف زوجة، ومات حين ضربه صياد بسهم مسموم فى قدمه، وهى تشبه أسطورة «كعب أخيليس» الإغريقية، التى تروى قصة أمير مات فى معركة بسهم فى كعب قدمه.. فالحضارات والأساطير تسرق من بعضها.. والآلهة أيضًا. 
تنطلق الاحتفالات من «مومباى»، عاصمة سينما «بوليوود»، فى مواكب تطوف كل المدن، ويغلب عليها اللونان البرتقالى والأخضر، ويرتدى الرجال الكبار زى «كريشنا» الرسميّ، والنساء السارى، ويضعون نقوشا ومساحيق على الوجه، وتبدأ الطقوس بالصيام، والسهر حتى منتصف الليل، وهو موعد ميلاد الإله كريشنا، الذى تغطى صورته وتماثيله الشوارع. 
مع الصور والتماثيل، لدى الهندوس طقوس أغلبها تتعلق باللبن، ومن هنا يمكن تفسير قداسة البقر، حيث يتم تعليق أوان فخارية مليئة باللبن الرايب فى أدوار عالية، ويقف الشباب على شكل هرمى لكسر الأوانى ودلقها فوق رءوس المشاركين فى الاحتفالات، ويزفّ الأطفال فى مواكب باعتبارهما «كريشنا وزوجته».. مع وصلات رقص وغناء وموسيقى دينية.
قصة "الريكشا"
فوجئت بـ«الريكشا» فور وصولى «نيودلهى»، كائن صغير يمشى على ٣ عجلات، ويجرَّه شخص يبذل مجهودًا مميتًا لتوصيل ٤ أشخاص (حمولة الريكشا) إلى نقطة محددة، وأجره رخيص، وأصلها آسيوى، من اليابان تحديدًا لكنها تطوَّرت فى الهند، ومنعت فى عدد من الدول لأنها تسبَّبت فى حوادث ضخمة، لكن «نيودلهى» اعتبرتها من معالمها الأساسية، ومنحتها رخصا ونمرًا، وفرضت على السائقين زيًا موحدًا: أصفر فى أخضر. 
«الريكشا» المواصلة الأولى فى نيودلهى الآن، متفوقة على «التوك توك». بالنسبة إلى أى أجنبى فهى خنفساء صغيرة، تتمايل بين السيارات، وسائقه على وشك أن ينكسر ظهره من «البدالات».. وإذا توقّف فجأة، سيقذفك من بين أحشائه إلى الأرض، التى غالبًا ما تكون مبلَّلة، بسبب أمطار آسيا المستمرة طوال العام. 
«الريكشا» المواصلة الهندية الوحيدة غير المتوفِّرة فى مصر، لا يمكن الخوض فى العشوائيات دون ركوبها، فهو على استعداد لدخول الشوارع القذرة فى حركات متهوّرة وسريعة ومستهترة مثل مجموعة صراصير هاربة من البايروسول، والحصول على أقل مقابل للتوصيلة، لا عدَّاد، ولا تسعيرة، مثل «أوبر» المنتشر فى الهند أيضًا، والتوك توك، الذى يسعى لاستنزاف جيبك باعتبارك سائحًا واستغلالك واجب قومى.
ويمكن أن تفاصل معه فيقبل أقل، ويقف عند حد معيّن بالاتفاق مع زملائه لا يقبل أى منهم أقل، فالرفض الجماعى فى هذه الحالة هو مصيرك حتى تقبل بما حدّدوه، عكس سائقى التوك توك، الذين «يقطّعون» على زبائن بعض. 
خذ الحكمة من أفواه سائقى «الريكشا».. أحدهم اختلفت معه حول الأجرة، التى كانت زهيدة، لكن الفصال والشعور بأن الآخر ينصب عليك طبع فى المصريين، لكن السائق، الذى لا يغسل ملابسه الموحَّدة، قرر تخفيف حدة الموقف، وفتح الكاسيت على أغنيات هندية، وبونجابية (وبونجاب إقليم هندى ضخم أغلب سكانه يرتدون طاقية برتقالية). 
سائق الريكشا حكيم، وقليل الأدب، لكن قلة أدبه تخرج على من يكسر عليه من سائقى «التوك توك» والتاكسى والباصات العامة، لكنه يلقى بنكاته، وملاحظاته، لكن بهندية قوية، ويجيدون كلمات إنجليزية بشكل خاطئ، أو غير محدَّد التقطوها من سياح «نيودلهى» ويعيدون صياغتها وقولها بشكل خاطئ.