الجمعة 19 أبريل 2024
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي
رئيس مجلسي الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي

آراء حرة

السلفية.. إطلالة أخرى

تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق google news
أصبحت «السلفية» أشبه بالفيل الذى تحدثت عنه الأسطورة القديمة حيث طُلب من عميان أربعة الاقتراب من «الفيل» ووصفه فجاءت الأوصاف كالتالى: الذى وضع يديه على أرجل الفيل وصفه بأنه أربعة أعمدة تقف على الأرض ومن لمس الخرطوم ـ الزلومة ـ قال إنه ثعبان، أما من وقعت يداه على الذيل فأكد بثقة تامة أنه: «حبل» . فى حين قال من اصطدمت كفاه بجسم الفيل: هذا حائط.. وهكذا حال الكتابات التى تناقش السلفية كل مؤلف يقف عند جانب، ويتحدث عنه باعتباره المعنى الصحيح للسلفية. فإذا أضفت إلى ذلك اختلاف مرجعية أو أيديولوجية كل كاتب، تجد أن تحديد معنى دقيق للسلفية أشد تعقيدا من وصف العميان للفيل. فمثلا هناك من يرى السلفية تتسع لتشمل الأزهر والوهابية ودعاة الإصلاح الإسلامى أمثال محمد عبده والمراغى وشلتوت وغيرهم.. ويرى البعض السلفية نقيضًا للفكرة الأشعرية التى يجسدها الأزهر، وثمة تصور ثالث يدرج التيار القومى فى الاتجاه السلفى. وإذا كنت تعتقد أن السلفية مناقضة للفكر الشيعى الإمامى، فهناك من يرى أنه لا فرق بين شيوخ الوهابية وملالى قم، فالجميع سلفيون، فضلا عن تصورات أخرى ترى السلفية ليست مذهبًا بل مرحلة زمنية وانتهت وغير ذلك كثير من رؤى وتصورات مناقضة ومتناقضة.
وليست مهمة هذه السطور فك الاشتباك بتحديد معنى واضح ودقيق للسلفية. فهذا أمر شبه مستحيل. فوضع تعريف حاسم لمفاهيم العلوم الإنسانية مسألة نسبية بامتياز تختلف من توجه لآخر، ومن مدرسة لأخرى تبعا للأساس النظرى الذى تستند إليه كل مدرسة. 
لكن لفت نظرى أثناء مطالعتى كتاب «نقد الخطاب السلفى» للراحل المفكر الكبير محمد حافظ دياب الذى صدر مؤخرا عن دار رؤية للنشر والتوزيع أن هناك مجموعة من السمات أشبه بالمسلمات، يتم لصقها بالسلفية وسلف الأمة الأول ـ السلف الصالح ـ تكاد تتفق على أغلبها الكتابات التى تتحدث عن السلفية سواء كانت مؤيدة أو منتقدة.
على أن النظرة المتأنية لسيرة «السلف الصالح» تخبرنا أن مثل هذه المسلمات ليست دقيقة كما سنوضح بعد قليل، لكن قبل الوقوف عند هذه السمات يلزم التنويه أن هدف هذه الملاحظات ليس مجرد التدقيق أو الاستعراض المعلوماتى، بل الهدف لفت النظر إلى تصورات «سلفية»، يمكن الاستعانة بها فى بناء مواقف عصرية، فلا تعارض بين هذه التصورات السلفية وكثير من المفاهيم الإنسانية العصرية.. أبرز هذه السمات ما يلى:
أولًا: «ترفض السلفية عامل الزمن، لأنها تقف بالتاريخ عند لحظة زمنية ماضية مثالية، وبمعنى آخر لا أهمية للزمن، فكل القيم حددها السلف الصالح والتعامل معها يكون بتطبيقها فى الحاضر».
شاعت هذه الفكرة رغم خطئها نتيجة انتساب ذوى العقول الضيقة للسلفية، ولكشف هذا الخطأ نضرب الأمثلة التالية:
١- شدد ابن القيم الجوزية، وهو من رموز الفكر السلفى على أن الفتوى تتغير بتغير الزمان والمكان والحال.. فالزمان بحسب هذه الرؤية السلفية كفيل بتغيير الفتوى.
٢- فى القرن الأول الهجرى أى فى قلب اللحظة السلفية، رفض أيوب السختيانى، وهو من أعلام السلفية الكبار، لبس الثوب القصير وأجاب من سأله: لماذا تركت السنة ولبست ثوبا طويلا؟ بقوله: قديما كانت السنة فى التقصير، أما الآن فأصبحت الشهرة فى التقصير.. والمغزى هنا ليس مجرد لبس ثوب طويل أو قصير، بل هذا التعليل الذى يؤكد أن الزمن قادر على تحويل السنة -الأمر المطلوب- إلى أمر مذموم.
٣- عمر بن الخطاب ـ وهو من هو فى الإسلام ـ هو القائل: الناس بزمانهم أشبه منهم بآبائهم.. فهذه الأمثلة تؤكد بوضوح أنه ليست كل سلفية معادية لفعالية الزمن وتأثيره فى السلوك والقيم الدينية.
ثانيًا: «السلفية ترفض التأويل لصالح الفهم الحرفى للنص الدينى ـ قرآن وسنة»، وخطأ هذه الفكرة لا يقل عن خطأ سابقتها للسببين التاليين:
١- لا يمكن تصور مسلم كائنا من كان، يفهم القرآن والسنة دون تأويل وكتب السلف أنفسهم شاهدة على تأويلات لا حصر لها لنصوص من القرآن والسنة.
٢- قد يقول قائل إن المقصود برفض التأويل هنا هو رفض تأويل صفات الله التى نسبها لنفسه فى القرآن أو نسبها له الرسول -ص- فى السنة. وهذا أيضًا غير دقيق. فالسلف الصالح أول بعض الصفات والإمام أحمد بن حنبل الذى يقدم كإمام ورائد للسلفية، نقل عنه تأويل صفة «الوجه» فى قوله تعالى: «ويبقى وجه ربك ذو الجلال والإكرام»، حيث أجمع كل أئمة السلف وبمن فيهم أحمد بن حنبل أن المقصود ليس «الوجه» كما تقول الآية بل هذا مجاز عن ذات الله عز وجل. 
كذلك أجمع السلف على تأويل قوله: «وهو معكم أينما كنتم»، فقالوا إن المقصود بالمعية هى علمه وقدرته. وهكذا فالسلف أولوا الصفات لكن تظل النكبة فى جهالة من يزعمون أنهم سلفيون فأشاعوا هذه الجهالات.
ثالثًا: السلفية ترفض علم الكلام، وهذا وهم شائع. فعلم الكلام الذى يناقش العقيدة الإسلامية من خلال حجج نقلية ـ قرآن وسنة ـ وعقلية عرفه الصحابة والسلف منذ مناقشات على بن أبى طالب وعبدالله بن عباس مع الخوارج، ثم عندما دخل الإسلام إلى بلدان ذات حضارات وعقائد مختلفة استخدم المسلمون الأوائل علم الكلام للمواجهة والرد على هذه العقائد والملل. 
أيضًا للإمام أبى حنيفة وكذلك الإمام الشافعى، كتب فى علم الكلام، أما الإمام مالك فهناك روايتان الأولى تقول إنه كتب رسالة فى علم الكلام ورواية أخرى تنفى وحتى أحمد بن حنبل جادل المعتزلة لإثبات أن القرآن غير مخلوق واستخدم حججًا نقلية وعقلية.
ثم جاء ابن تيمية صاحب الدراسات الكلامية المطولة، ليؤكد أن استخدام علم الكلام فى الدفاع عن عقيدة أهل السنة والجماعة جائز بل مطلوب لإظهار الحق.
رابعًا: «السلفية ترفض العقل لأنها تقلد السلف بخلاف المعتزلة تعتمد على العقل وترفض تقليد السلف».
هذا الخطأ سببه عدم الاطلاع على كتب المعتزلة، لأنهم فى كتبهم المعروفة باسم «طبقات المعتزلة» قالوا إن آراءهم هى تقليد للسلف وجعلوا فى الطبقة الأولى لأئمتهم: أبوبكر الصديق وعمر بن الخطاب وعثمان بن عفان وعلى بن أبى طالب وعبدالله بن عمر وعبدالله بن مسعود وغيرهم من الصحابة.
وفى الطبقة الثانية تجد أسماء: الحسن البصرى ومحمد بن سيرين وصفوان بن سُليم ومحمد بن واسع وقتادة وغيرهم. وكل الأسماء السابقة هى مرجعية أحمد بن حنبل وكل تيار أهل الحديث الذى يطلق عليه «السلفية»، لكن الخلاف بين المعتزلة والسلفية رغم اتحاد المرجعية سببه أن المعتزلة ينقلون عن هؤلاء الأسلاف روايات يرفضها السلفيون والعكس صحيح. 
وبصفة عامة كل الفرق الإسلامية مرجعيتها سلفية بالرجوع إلى الصحابة أو التابعين، فلا فرق فى هذا بين السنة والشيعة والخوارج والمعتزلة.
أما الحديث عن أن السلفيين يرفضون العقل، فهذه مسألة نسبية تختلف من عصر لعصر، ومن شخص لآخر ومن بيئة لأخرى، وأبسط مثال على ذلك هو أحمد بن حنبل وابن حزم الظاهرى، فالاثنان سلفيان ومرجعيتهما النصوص ـ قرآن وسنة ـ والنقل عن السلف، لكن أبدع ابن حزم مذهبًا فقهيًا وعقليًا فرديًا، مستخدمًا نفس الأدوات التى استخدمها ابن حنبل الذى لم يترك مذهبًا متكاملًا.