الخميس 02 مايو 2024
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي
رئيس مجلسي الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي

آراء حرة

الإسلام والسياسة من الشافعي إلى سيد قطب "3"

تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق google news
مع ابن عقيل الحنبلى ثم مع المالكية (فقهاء المصلحة) تجاوز الأمر الإلماح إلى التصريح بوجود نهجين فى إدارة دار الإسلام واشتراعها: نهج السياسة، ونهج الشريعة، وهما متمايزان لاختلاف الوظيفة والمجال، لكنْ هناك ضرورةٌ لتعاوُنهما ليكونَ حالُ الناس أقرب إلى الصلاح وأبعد عن الفساد، ومن طريق هذا التكامل تظلُّ الشرعية متحققةً دون داعٍ لافتراض وجود تأزُّم لا مخرجَ منه. 
أمّا الأُفُقُ الآخَرُ الذى فتحه ابن عقيل فهو أُفُقُ فلسفة الشريعة الذى يُطلّ على شمولها واستيعاب مقاصدها ومآلاتها لمتغيرات الأحوال على الدين وعلى الأمة والجماعة والدولة. ففى الاقتباس ذاتِه الذى أورده ابن القيم عن كتاب الفنون له، يقرر ابن عقيل: «أنّ الله سبحانه أرسل رُسُلَهُ وأَنزل كتبه ليقومَ الناسُ بالقسط، وهو العدل الذى قامت به الأرض والسماوات، فإذا ظهرت أماراتُ العدل، وأسفر وجهُهُ بأيٍّ طريقٍ كان، فثمَّ شرعُ الله ودينُهُ.. وقد بيَّنَ سبحانه بما شرعه من الطُرُق أنّ مقصودَهُ إقامة العدل بين عباده، وقيام الناس بالقسط، فأيُّ طريقٍ استُخرج بها العدلُ والقسطُ فهى من الدين، فلا يُقالُ إنّ السياسة العادلة مخالفةٌ لما نطق به الشرع (أو أنها لا توصفُ بأنها عادلة لأنها لم تأت من طريق الفقهاء- والعبارة بين القوسين من عندى) بل هى موافقةٌ لما جاء به، بل هى جزءٌ من أجزائه، ونحن نسميها سياسة تبعًا لمصطلحكم (أو مصطلحهم- من عندى)، وإنما هى عدلُ الله ورسولُهُ، ظهر بهذه الأمارات والعلامات...».
إنّ هذا الأُفُقَ لاستيعابية الشريعة الذى انفتح على فلسفتها ومقاصدها ومآلاتها، وأنّ السياسة العادلة أحد تلك المجالات، أظهر الحاجة إلى نظريةٍ لمقاصد الشريعة، وأُخرى جديدة للسلطة السياسية ومهماتها، ولا نعرف إن كان ابن عقيل قد تحدث فيهما. ففى كتابه «الواضح فى الأصول» ما تعرض لشيء من ذلك، أما كتابه: «الفنون» الذى نقل عنه ابن القيم الاقتباس الطويل السابق الذكر، والذى يقال إنه كان يقع فى سبعين مجلدًا فقد ضاع معظمه، وما وصل منه غير مجلَّدين، ولا حديث فيهما عن نظريتى المقاصد والسلطة أيضًا.
إن ما يصلُ إليه ابن عقيل أنّ العدالة الفقهية والقضائية مهمةً جدًا، وهى ذاتُها محتاجة إلى سياسات أو تدبيرات لتجاوز القواعد الصارمة لدى الفقهاء، لكنها مهما اتّسع أُفُقُها لدى فقهاء المذاهب وقُضاتها قاصرةٌ جدًا عن قضاء حاجات الناس، بل إنّ حاجة الأمة تشتد إلى العدالة السياسية. 
ومن هنا تبرز الحاجةُ إلى التأليف بطرائق جديدةٍ فى نظرية السلطة، والعمل السياسى، فى الوقت الذى يكون على الفقهاء المُضيّ فى تطوير مفاهيم وآليات العمل الفقهى، وفى تطوير نظرية الشريعة ومقاصدها. لقد كتب كثيرون من قبل فى النظرية السياسية ومهمات الدولة وواجباتها، وقد كان من بينهم فقهاء كتبوا فى الأموال والخراج، أو فى الأحكام السلطانية، وقد كان هؤلاء يكتبون دون غطاءٍ نظرى أو مقدمات شافية. كما أنّ الماورديَّ الشافعيَّ وأبا يعلى الحنبلى عندما كتبا فى الأحكام السلطانية؛ فإنّ التجربة التاريخية استغرقتهما إلى حدٍّ بعيد. ثم إنهما ما كانا يملكان رؤيةً شاملةً للمسألة السياسية لضيق المجال الفقهى من جهة، وللتناكُر غالبًا وسوء الظن بينهما وبين السياسيين، ولشكوكهما القديمة فى الطبيعة الدهرية للسلطة. وفيما بين ابن عقيل الحنبلى المتوفّى عام ٥١٣هـ وابن تيمية المتوفَّى عام ٧٢٨هـ لا نعرفُ مَنْ كتب فى السياسة بالمفهوم الجديد من الفقهاء، وإنما ظهرت عدة كتب تُعنى بالشأن السياسى على الطريقة الفلسفية أو طريقة نصائح الملوك أو ما يقاربها، وأشهرُ تلك الكتب: «سياست نامه» لنظام المُلْك الطوسى (٤٨٥هـ) وزير السلاجقة، وهو لا يتعامل فى الكتاب مع مسألة السياسة بالمعنى الفلسفى أو الدينى، بل جاء تأليفه على شكل مذكرات رجل دولة فى السياسات التى ينبغى اتّباعُها لتسْلم الدولة والسلطان، لكن هناك ما يمكن قوله عن كتاب ابن حزم الأندلسى فى «السياسة» من الفترة نفسها، فهو مختلف وليس فى نصائح الملوك.
إنّ الذى يميّز ابن حزم أنه كان فقيهًا بارزًا، وقد سمَّى كتابه: «السياسة». وما وصلنا الكتاب بل هناك اقتباساتٌ عنه فى «الشهب اللامعة فى السياسة النافعة» لابن رضوان المالقى، و«بدائع السلك فى طبائع المُلْك» لابن الأزرق. 
ومن خلالهما يمكن القول إنه يجمع بين منهجى متفلسفة السياسات العامة، وكتب الأحكام السلطانية. وابن حزم أكثر تشبثًا بظواهر النصوص من الحنابلة، ولذا فقد كان بوسعه مثل ابن عقيل بعد قليل التحرك، حيث لا نصَّ يجب التقيد به. 
وقد كان هناك خصومُهُ من المالكية الذين يعتبرون المصلحة دليلًا فرعيًا، وليست «السياسة» كما فهموها أكثر من اعتبار المصالح، بل إنّ الشريعة بمجملها تؤول إلى جلب المصالح ودرء المفاسد. 
جاء كتابُ ابن تيمية الحنبلى بعنوان: «السياسة الشرعية فى إصلاح الراعى والرعية»، وهو الأول بعد التحول الذى أحدثه ابن عقيل الحنبلى الآخر على مفهوم السياسة لدى الفقهاء، لقد أوضحنا من قبل أنّ الحنابلة كانوا مختلفين مع الشافعية بشأن أمرين فقهيين، هما: جواز تغليظ العقوبة على المرتكبين بما يتجاوز الحدود، ثم مَنْ يكون من حقّه إجراء العقوبة، أو أيًا تكن العقوبة هل يجوز للسلطة السياسية إجراؤها أو إنفاذُها خارج القضاء، ما يقوله ابن عقيل إنّ السلطنة تساوى (السلطة السياسية) يجوز لها ذلك إذا رأت فيه مصلحةً راجحة، فقد قصّر القضاء بسبب الأفهام الضيّقة لتحقيق العدالة، وتجاوزت السلطة السياسية بهذا العُذْر حَدَّ السلطة أحيانًا، بحيث بلغ ذلك حدود «مخالفة حكم الله ورسوله»؛ ولذلك لا بُدَّ من رؤيةٍ جديدةٍ من الطرفين: القضاة والسياسيون لمسألتى مهمات السلطة الشرعية، وطرائق تحقيق العدالة، وهو الأمر الذى قام به ابن تيمية تحت العنوان الذى وضعه ابن عقيل، أى السياسة الشرعية، وهو فى الرسالة يخاطب وُلاة الأمور، لكنه يخاطب أيضًا الفقهاء والقضاة، وإن اعتبرهم من الرعية، بينما هم فى الحقيقة من أهل الولايات، أى من أهل السلطة، ولذلك فإنّ الرسالة تستحق التلخيص لفهم المتغيرات التى جاءت بها الرؤية الجديدة.