الجمعة 10 مايو 2024
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي
رئيس مجلسي الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي

ملفات خاصة

عن التعذيب والسجن وعلاقته بـ"صدام".. معتقلات "عفيفي مطر"

 عفيفى مطر
عفيفى مطر
تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق google news
إذا سألت أياً من المارة فى شوارع المحروسة عن محمد عفيفى مطر ستُقابل بالكثير من علامات الاستفهام، من يكون هذا، وربما تتفاجأ إذا عرف أى من المارة أعماله، ليس لانعدام قيمة أعماله، فهذا أمر لا يخفى على أى قارئ، مطلع، ويؤكده عدد الدراسات الأكاديمية سواء عربية أو أجنبية بنيت على أعماله، لكن لوجود فجوة بين أشعار مطر وبين الثقافة الشعبية، فالرجل ليس كالراحل أحمد فؤاد نجم يتحدث بلغة الشارع، بل أدبه كأدب العقاد، أدب مُقدم للنخبة التى تقرأ كثيرا وتعى فلا يصعب عليها فهم مضمون كلامه، كلماته شديدة الفصاحة تشبه مفردات يوسف زيدان.
كان الشاعر عفيفى مطر واحدا من أثرى الشعراء ليس على المستوى الأدبى فقط، بل على المستوى الإنسانى كذلك، يمكن لحكايته أن تشكل مصدر إلهام لهواة كتابة القصص الواقعية، فهى مليئة بالألم والنجاح بعد كل فشل، ومليئة كذلك بالناس، والأصدقاء، ومن ضمن هؤلاء الأصدقاء المقربين الشاعر زين العابدين فؤاد، والذى قال فى تصريحات خاصة لـ«البوابة»: «لمطر قدرة رائعة على التصوير وتوليد الصورة، بحيث ترسم فى النهاية صورة واحدة كبيرة مليئة بالتفاصيل الصغيرة، هو يرى التاريخ والتراث والأرض والفلاحين، والنيل والحياة والموت، ويمزجها معاً فى نسيج واحد خاص جداً، بلغة غير متكررة ولا مكررة، بلغته الخاصة جدا، ولعفيفى مطر إنجازات فى اللغة الشعرية وفى الصورة الشعرية غير مسبوقة، فهو واحد من رواد القصيدة المصرية الحديثة.
زين الذى صاحب مطر منذ بداية الستينيات من القرن الماضى، وصنع معه أول نسخ لديوانه «أنت واحدها.. وهى أعضاؤك انتثرت» والذى كتبه فى المُعتقل عام ١٩٩٢، وكان له مخطوطة واحدة أخذها «زين» وأعطاها لمن يقدر على صنع نسخ منها، ووزع تلك النسخ قبل أن يُطبع الديوان رسمياً، وما زالت تلك النسخة التى كتبها الشاعر ذو الخط الجميل ضمن مقتنيات زين العابدين فؤاد.
أما عن كواليس فترة السجن فقال الشاعر الحاصل هذا العام على جائزة الدولة التقديرية: «كان مطر سببا فى علاقتى بمهرجان الشعر العالمى فى روتردام الهولندية، عام ١٩٩٢ بسبب اعتقاله، ولما تم تعذيبه فى السجن، اخترت قصيدة له، وترجمتها، وبعثت برسالة إلى منظمة الشعر العالمى فى روتردام، لكى أرشحه لجائزة يقدمونها لشاعر فى محنة، وكانت محنة مطر وقتها سجنه، ولم يكن المنظمون يعرفوننى ولا يعرفون عفيفى مطر، وأرادوا أن يتأكدوا من صحة المعلومات التى قدمتها، فاتصلوا بأستاذة فى الجامعة الأمريكية هنا، وأكدوا لهم أننا شعراء، وبالفعل نال مطر الجائزة بناء على ترشيحى له، وكل هذا دون أن ألتقى بالمنظمين، إذ بعثت رسائلى عن طريق الفاكس، وكان وقتها إحدى طرق التواصل الأساسية، لتقديم كل المعلومات والقصائد المطلوبة، وحينما أفرج عنه دُعى إلى قراءة شعره فى مهرجان الشعر العالمى بنفس البلدة، وبعد عام دعونى أنا شخصيا، وبدأت علاقة مختلفة تماما بينى وبينهم بعد ذلك، وكانت الواقعة التى ذكرتها تلك إحدى الحملات وطرق الضغط والمطالبة بالإفراج عنه، وكتبت فى ذكرى ميلاده الـ٦٠ مقالا فى مجلة «أدب ونقد» وقلت فيها «شجرة اسمها عفيفى مطر»، والشجرة تلك مروية من التراث والتاريخ والفلسفة وتطرح هذا الشاعر الكبير».
ويضيف فؤاد: «قبل هذا بكثير عام ١٩٦٩ عقد المؤتمر الأول والأخير للأدباء الشباب فى الزقازيق، وكانت محاولة لكسب ثقة المثقفين من قبل الحكومات وقتها، وذهبنا إلى الزقازيق وكنا نتجول بالقرى المختلفة فى المساء لقراءة الشعر، وعرض المناقشات الأدبية، وكان هناك أكثر من ٢٠ ألف فلاح فى إحدى القرى جلسوا لمدة ٥ ساعات متواصلة دون ملل، وكنا فى هذه الفاعلية بصحبة عفيفى مطر، وملك عبدالعزيز، وأحمد عبدالمعطى حجازى، ونجيب شهاب الدين، والعراقى مظفر النواب، وبالطبع الراحلة رضوى عاشور، ومن الطرائف التى عاصرتها لمطر كيف هيأت المجموعة مطر لتلقى خبر أنه لن يحصل على جائزة كانت قيمتها فى هذا الوقت ١٠٠ جنيه، وكان مرشحا لها، ولكن علمنا بشكل شخصى أن الجائزة من نصيب آخر، ولتهوين الأمر غنينا «يا مطر الجائزة فى خطر»، وفى الوقت نفسه كنا نغنى للمرحومة ملك «آه يا ملك ما أجملك» وكان عفيفى يغنى بصوته العذب ونحن نرد عليه».
«كتبت عنه فصلا فى كتابى (أساليب الشعرية) وفصلاً آخرا فى كتاب (التحولات الشعرية)».. هكذا بدأ الناقد الأدبى صلاح فضل حديثه عن مطر، مضيفا: «يعد واحدا من كبار الشعراء المصريين فى العصر الحديث، كان مثقفا ثقافة فلسفية وعميقه وكان ينهج فى شعره ويتخذ أسلوبا إشراقيا يرى فيه عوالم غريبة ويصوغ قصائد بالغة العمق والإسهام والغموض، وكانت المشكلة الأساسية فى شعر عفيفى غموضه، وأصبح لا يستطيع أن يقرأه ولا يفك شفراته إلا المتخصصون، بينما فى دواوينه الأخرى ينبض بحيوية فائقة تتسم بعشق الوطن وحب الطبيعة والولع بما يؤدى إلى رقى الإنسان، فالرجل مر بتجارب أليمة فى حياته، أبرزها تجربة هجرته إلى العراق، ولما عاد إلى مصر اتهم ظلما بمناصرته لنظام صدام حسين، وسجن وعذب لهذا السبب، وأبدى بسالة شديدة على ألا يعتبر حبه للعراق جريمة يمكن أن يعاقب عليها».
هذا الليل
دهر من الظلمات أم هى ليلة جمعت سواد
الكحل والقطران من رهج الفواجع فى الدهور!
عيناك تحت عصابة عقدت وساخت فى
عظام الرأس عقدتها،
وأنت مجندل – يا آخر الأسرى...
ولست بمفتدى..
فبلادك انعصفت وسيق هواؤها وترابها سبيًا –
وهذا الليل يبدأ،
تحت جفنيك البلاد تكومت كرتين من ملح الصديد
الليل يبدأ
والشموس شظية البرق الذى يهوى إلى
عينيك من ملكوته العالي،
فتصرخ، لا تغاث بغير أن ينحل وجهك جيفة
تعلو روائحها فتعرف أن هذا الليل يبدأ،
لست تحصى من دقائقه سوى عشر استغاثات
لفجر ضائع تعلو بهن الريح جلجلة
لدمع الله فى الآفاق..
هذا الليل يبدأ
فابتدئ موتا لحلمك وابتدع حلما لموتك
أيها الجسد الصبور
الخوف أقسى ما تخاف.. ألم تقل؟!
فابدأ مقام الكشف للرهبوت
وانخل من رمادك، وانكشف عنك،
اصطف الآفاق مما يبدع الرخ الجسور..
الأرض القديمة
رأيتُها فى صكوكِ الإرثِ مكتوبة
سِفْرًا من الإنسان والإزميل
والحجرِ
رأيتُها من شقوق الصيفِ
مسكوبة
غاباتِ أيدٍ ترعرعُ فى دم الشجرِ
وأَوْجُهًا من حميم الطمى مجلوبة
منسوجة بالفروع الخُضَر والثمرِ
وأعظُمًا غالبتْ أكفانَها، انقلبتْ
فراشةً حمراءَ مخضوبة
بالنار والغيم والرَّهَج الدوّارِ فى
السفرِ..
كانت صكوكُ الإرثِ مختومة
بخاتم ملتهبٍ وأحرفٍ مشويّة
وكان فى أطرافها من سلّة الأيامْ
زخرفةٌ كوفيّة
وأَثَرُ القوافلِ المغبرَّةِ الأعلامْ
والزحمةُ التى تشبهُ عشَّ البومة
وطرّةُ السيّافِ والإمامْ
والصرخةُ المكتومة!
حين تقصّفتْ أصابعى ويبستْ
مفاصلُ الراحلة الملعونة
وقفتُ فى الصحراء تحت الشمسْ
أنتظرُ الطغراءَ والأوامرَ الميمونة
كى أستطيع الهمسْ
وقفتُ فى الصحراء واجمًا مُقنَّعاً
أنظر جِلْدَ الأرضْ
مستبدلًا منتسخًا مرقَّعا
وكلما ثبّتتِ الشمسُ رماحَها
الحمراءَ فى جمجمتي
قطعتُ رحلةَ الوقوفِ بالقراءة..
(أُخرج من غيابة العباءة
صحائفَ الإرثِ المقدّسة
وكلما تخرّقتْ سطورُها
بالأَرَضه
تهدّمتْ مدينةٌ على رؤوس
ساكنيها
أو سقطتْ تحت نعال الروم
قلعةٌ أو مملكة
أو زحفتْ حدودُنا وسوّرتْ
مواطَئ الأقدامْ..).
لو أن هذى الشجرة
لم تجدلِ الجذورَ للأعماقْ
لو أنها لم تطبخِ الضوءَ بجوفها
وتغزل الأوراقْ
لما تملّكتْ شبرًا على مملكة
نداءات على الجدران
نداءات على الجدران لم تقشرها الأظافر ولم يغسلها المطر
اختبئ يا قطارا يهرول فى الحلم،
صوتك يخلع ريش النشاز الملون، يسقط بين
الصدى والصدى، وتصنفره شفرات الأظافر،
يدخل أوركسترا الأسر.
فلتختبئ يا قطار يهرول فى الحلم،
فالأرض مكشوفة المحطات مفتوحة تحت ضوء السفر
اختبئ فالإقامة مأهولة بوحوش القرابة
والألفة الناعمة.
جسد للعشيرة، أعضاؤه انفرطت
كالعناقيد فى ورق الملصقات- الأفيشات- وهج
النيون المشاكس.
حط الظلام
فهل ينفر النهد تحت الأكف وتلتم رهط العناق
الصريح وهل يفتح الليل مضيفه للتخاصر
والجنس؟ هل تفلت الشهقات المقيمة فى اللون، هل؟
تنفست حقائب الوطن، يالله،
هل يملك كل هذه الملابس الداخلية؟!
وبعثرها فى الريح، فهل كل هذه الألوان من
شمس واحدة؟!
وغربت الشمس
فكل طريق صباح وكل صباح طريق.
العصافير تنسج أعشاشها فى
حديد الشبابيك والأرفف الخشبية فى المكتبات
وفى الحافلات المليئة بالزحمة الضاحكة
والعصافير تنسج أعشاشها تحت ليل من
الشعر المستعار وفى خوذ الشهداء
وأحذية الهاربين.
أسرعوا أسرعوا.. فالبلاد القديمة
ركضت خلفكم، واكتبوا واكتبوا.. فالبلاد القديمة
قطعت شجر الأبجدية.
مطلع جاهلى يجيء
تطلع الشمس فى الذاكرة
تحت إيقاعه يستضىء
وطن للخراب الطلولي،
نهر تجررّه الصرخة الغائرة.
صخب، وبلاد تجلجل فى حجر السمع،
والرعد يزرع أعضاءه..
انتظروا.. تصهل الخيل فى الأروقة..
حجر الأجيال كنا معًا
يا حجرا أعرفهُ مذْ كنتُ صغيرا ألهو
فوقَ العتبة.
وأدقُّ عليكَ نواةَ المشمشِ والخروبْ
فى المدخلِ..
كنتَ تنامُ عميقاً..
لا توقظكَ الشمسُ ولا
هَرْوَلةُ الأقدامْ.
كنَّا فى شمسِ طفولتنا وصبانا
نصطادُ فراشَ الأحلامْ
وأنا أسألُ صَمْتَكَ:
هل تَتَفَصَّدُ ملحا - مثلى - أمْ
تنفصَّدُ عَرَقا من رملٍ أمْ
سوفَ تشيخُ فتنثركَ الأيامْ
فى طرقِ السعى؟!
وهل صمتُكَ دمعةُ حزنٍ مكْنونةْ
أم زفرةُ يأسٍ أم بهجةُ حلمٍ
يتوقَّدُ فى أغنيةِ الصمتِ المجنونةْ؟!
كنَّا فى طرقِ السعى نغنّى للعدلِ وللحريةِ
ونفجرُّ فى ضَرَباتِ القلبِ بروقا خُضْرا
تَسْطَعُ فى كيْنُونتنا السرِّية
فترانا الأرضُ بشارةً فجرٍ يطلعُ من
تاريخِ الظلمة.
يا حجرا أعرفُه..
هل كنتَ الموسيقى المخبوءةَ فى
شعرِ الشعراءْ
أم كنتَ نداءً كونيّا يَصَّاعدُ من صمتِ الشهداء؟!
أزْمنَةٌ مرّتْ..
كانت تنثرُ فضَّتَها ورمادَ
كهولتها فى الشِّعْرِ
وَوَهَنِ الخطوةِ
والجسدِ المهزومْ
وأنا أسألُ صمتَكَ:
هل صرختُكَ الملساءُ الحُبْلى
تحملها عرباتُ خرابٍ مندفعةْ
ينقلها بنَّاءون لصوصٌ من أعتابِ البيتِ
لبناءِ السجنِ وتَعْليةِ الأسوارْ؟!
أم هذى الصرخةْ فجرٌ فَضَّاحٌ مكتومْ
سيُشعْشِعُ حينَ يدقُ الولدُ الآتي
- من ظلماتِ الغيبِ-
نواةَ المشمشِ والخروبْ؟!
كنا معًا 
كنا معا.. بينى وبينك خطوتان
كنت صراخ اللحم تحت السوط حينما
يقطع ما توصله الأرحام
وشهقة الرفض إذا انقطعت مسافة الكلام
بالسيف أو شعائر الإعدام
كنت أحتاج الضوء والظلام
وثغرة تنفذ منها الريح
لليائسين من أرغفة الولاة والقضاة
والخائفين من ملاحقات العسس الليلي
أو وشاية الآذان فى الجدران!!