الجمعة 26 أبريل 2024
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي
رئيس مجلسي الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي

آراء حرة

معقولية الانقلاب وزيف الحقيقة الغائبة في تركيا

تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق google news
معقولية أي فكرة ترتبط أولًا بمدى قابلية هذه الفكرة للتصديق من ناحية وتطبيقها من ناحية أخرى، وتحت زيف المشهد السياسي غابت كثير من الحقائق عن تفاصيل الانقلاب العسكري الذي شهدته تركيا في 15 يوليو الجاري، ولعل تداعي الأحداث وتراكمها ساعد بشكل كبير في إظهار هذه الحقائق وجلاء هذا المشهد الغامض وفك شفرات علامات الاستفهام التي لعبت دورها مع أولى المشاهد التي ظهرت على وسائل الإعلام مساء ذلك اليوم المشئوم.
بضع دبابات شاهدها الأتراك خلال ساعات الانقلاب العسكري المحدود في ساعاته الأولى، ومثلها وقفت على جسر البسفور، والبعض الآخر في بعض شوارع تركيا، لا أحد يعرف ماذا يحدث، سُمح للرئيس التركي بالخروج مخاطبًا شعبه بفشل الانقلاب، مطالبًا إياه بضرورة الخروج للميادين، فجأة ونفس ذات الوسائل الإعلامية تُعلن فشل الانقلاب الذي لم يشعر به النّاس، فما بين مشهد الدبابات وإعلان فشل الانقلاب ساعات قليلة كان يتحرك فيها رئيس الدولة ورئيس وزرائه بحرية تامة بينما تعمل وسائل إعلام الدولة بكل أريحية ودون إزعاج!
انقلاب الـ 6 ساعات، سمح فيه الانقلابيون بحرية الحركة لرئيس الوزراء، كما أنهم لم يعتقلوا أو يحاولوا اعتقال الرئيس التركي، كما سمح الانقلابيون بحرية التعبير في حركتهم، فتركت كافة الوسائل الإعلامية التابعة للحكومة التركية بالعمل باستثناء إحدى المحطات في محاولة لإضفاء مصداقية مفتقدة وغير معقولية لا يصدقها العقل البشري على مسار ذلك الانقلاب.
لست من دعاة النظرية التآمرية ولا من محبيها وبخاصة في عالم السياسة، وأرى دائمًا معتنقيها مشوهين نفسيًا وسياسيًا وغير قادرين على فهم الأحداث أو التفاعل معها إلا بهذه الصورة الساذجة، وأن منتجيها فقراء معدومين ليس لديهم ولا عندهم ما يستطيعون أن يقدموه للناس أو يفهموا من خلاله الأحداث السياسية التي تجري من حولهم.
عادة تحدث الانقلابات العسكرية في المساء أثناء نوم الناس حتى إذا ما استيقظوا وجدوا أنفسهم أمام نظام سياسي جديد نجح في تأمين كافة المرافق الحيوية للبلد وامتلك زمام كل شيء، وهذا يختلف عما شاهدناه في انقلاب أردوغان الذي حدث في الساعة السابعة مساءً، فتابع الأتراك أحداثه عبر الشاشات التركية الداعية والداعمة للحكومة، فلم يناموا حتى اطمأنوا بفشل انقلاب الدبابات الـ 6 التي نزلت الشوارع.
ما تلي الانقلاب العسكري من إجراءات تُفسر علامات الاستفهام التي وضعها البعض أمام الفاعل الحقيقي لهذا الانقلاب في محاولة لتفسيره، ولعل إعلان اسم الداعية الإسلامي محمد فتح الله كولن كمتهم رئيسي في الساعات الأولى للانقلاب، بل منذ اللحظة الأولى عندما وجّه إليه الرئيس التركي رجب طيب أردوغان هذا الاتهام عبر برنامج المحادثة على "الإسكاي بي"، هو ما يؤكد إعداد سيناريو الاتهام، وقد يكون الرئيس ذاته متورطًا في التفاصيل والإعداد، وقد يكون مشاركًا في التخطيط والتنفيذ، فقد لا يوجد ما يمنع أنه كان على علم مسبق بما سوف يحدث واستغله في تمرير إجراءات الهيمنة على المشهد التركي، فقد كان يستعد لتوجيه ضربات لمعارضيه، منتظرًا الفرصة لذلك، وقد حانت له أو هيئ لها ما دفعه لتنفيذ مخططه.
المشهد التركي مليء بالحقائق المزيفة عن قراءة الانقلاب العسكري وتفاصيله، خاصة أن الرئيس استخدم ما حدث من أجل توجيه انتقادات للمؤسسة العسكرية بل واتخاذ إجراءات من شأنها إعادة هيكلة هذا القطاع بما يتناسب مع سياساته التي تم إعدادها مسبقًا، ولعل إهانة الجيش التركي بهذه الصورة المزرية يؤكد نية بعض التنفيذيين في تحقيق ذلك، ومن العجيب أن السلطات أعلنت اعتقال قرابة 150 جنرالًا في جيش أتاتورك على خلفية هذا الانقلاب الهزيل، رغم أن عقيدته الكمالية لا تتيح لقياداته الانضمام لفصيل ديني، فضلًا عن جنوده الذين تم إلقاء القبض عليهم بالآلاف على خلفية ذات التهمة.
اعتقال عضوين بالمحكمة الدستورية العليا التي تمثل أعلى محكمة في تركيا يؤكد مخطط الهيمنة التي كان يستعد له الرئيس التركي، مستغلًا ما حدث كذريعة أو تكيف الأحداث بما يخدم هدفه، فسرعان ما حدث وقامت أجهزته بفصل آلاف الموظفين لدرجة فصل عشرات الطلاب الذين يدرسون في إحدى الكليات العسكرية واعتقالهم، وإغلاق العشرات من وسائل الإعلام وإلقاء القبض على إعلامييها، ومنع سفر الأكاديميين خارج البلاد، وهذا إن دل فإنما يدل على فكرة الاعتداء المعد لها من منطلق الافتئات على الحقيقة التي أصبحت غائبة عن المشهد التركي.
في الدول المتقدمة تقوم الأنظمة السياسية بتقليص دور الدولة مقابل تضخيم دور المجتمع المدني وليس العكس كما يحدث على يد الرئيس التركي الذي استغل أحداث الانقلاب العسكري أسوأ استغلال بهدف تحقيق طموحه الشخصي بإخضاع الدولة بمؤسساتها لحزب العدالة والتنمية ولمنطقه السياسي.
أغلب الباحثين والسياسيين يصعب عليهم فهم منطق الأحداث في تركيا وغير قادرين على ربط سياسات رئيس الدولة حاليًا بما سبق منذ تولي حزبه مقاليد الحكم بشكل منفرد في الداخل حتى يستطيع تمييز الغث من السمين والحقيقة من الزيف بخصوص ما حدث مساء 15 يوليو، وهو ما يجعلنا نطرح وبقوة الحديث عن معقولية الانقلاب العسكري بعد مرور أكثر من عشرة أيام عليه والتشكيك في تفاصيل ما حدث من الأساس، وقد يزداد هذا التشكيك مع الإجراءات الاستحواذية التي يتخذها الرئيس التركي لضرب معارضيه.