الإثنين 13 مايو 2024
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي
رئيس مجلسي الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي

آراء حرة

على هامش مذبحة باريس

تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق google news
قتل ٨٤ شخصًا على الأقل وأصيب العشرات بينهم ١٨ فى حالة حرجة عندما اقتحم شاب فرنسى مسلم من أصول تونسية يدعى محمد لحويج بوهلال، ويبلغ من العمر ٣١ عاما، كان يقود شاحنة، حشدا من المحتفلين بالعيد الوطنى الفرنسى فى مدينة نيس جنوب فرنسا، وقد قال الرئيس الفرنسى فور الحادث فى خطاب متلفز إن «فرنسا تحت تهديد إرهاب الإسلاميين».
لست من أهل التخصص فى الدراسات الدينية، ولذا فلن يتجاوز حديثى حدود متخصص فى علم النفس السياسى يحاول أن يفهم سلوك البشر فى ممارستهم لحياتهم الفكرية والاجتماعية. ومن هذا المنطلق المحدد ينبغى التمييز بين الرسائل الإلهية وسلوك البشر الذين تلقوها وانضووا تحت راياتها.
إن الكتب السماوية كتب خالدة لا يطرأ على نصوصها تعديل مهما تغير الواقع الاجتماعى السياسى، ومن ثم فإن تفسيرات البشر لم تنقطع لتلك الكتب التى يؤمنون بها فضلا عن تلك التى يؤمن بها غيرهم، ونستطيع أن نقرر دون خوض فى التفاصيل أنه لا توجد جماعة لم تلتمس فى كتابها المقدس ما يبرر العنف والقتل والإبادة، وأيضا ما يبرر المسالمة والموعظة الحسنة، دون أن ينتقص ذلك التباين بطبيعة الحال من قدسية الكتب السماوية. إنه اختلاف بين اجتهادات البشر، ويعلم الله بمن اجتهد فجانبه الصواب ومن اجتهد فأصاب، ومن أوّل فتعسف فى التأويل إفراطا أو تفريطا لغرض فى نفسه: نفاقا أو خوفا أو طمعا. الأمر المؤكد أن الجميع قد وصفوا تأويلاتهم بأنها التأويلات الصحيحة المعتدلة المعبرة عن جوهر الدين.
لعل أحدًا لم يعد يجادل فيما أكدته دراسات علم النفس السياسى من تأثير الدين على السلوك، ولذلك لم يكن مستغربا أن يلجأ البشر على اختلاف نوازعهم لالتماس السند الدينى لتصرفاتهم أيا كانت، فوجدنا يهودا يلتمسون فى آيات العهد القديم ما يبرر لهم القتل وسفك الدماء دون تمييز، ويغضون الطرف عن آيات تحرم القتل والسرقة والنهب وتنهى عن مجرد التفكير فى الشر وتحذر من إيذاء الغرباء، ووجدنا مسيحيين يلتمسون فى آيات العهد الجديد ما يبرر التعذيب والقتل رغم كثرة الآيات التى تدعو إلى التسامح والحب، ولم يختلف الأمر كثيرًا بالنسبة لنا كمسلمين فقد وجدنا من يعتبر أن كافة آيات التسامح والمسالمة قد نسخت ولم يعد أمام المسلمين سوى قتل من يخالفونهم العقيدة. إن جرائم المتطرفين من اليهود الذين يرفعون راية التوراة غنية عن البيان، ولعلنا لسنا فى حاجة إلى إعادة التذكير بها، وفى المقابل نجد من اليهود من وقفوا بصلابة ضد كافة مظاهر التمييز العنصرى، وضد إبادة الفلسطينيين وتدمير منازلهم. كذلك فقد أقدم المتطرفون من المسيحيين فى العصور الوسطى على تعذيب المهرطقين، وقتال أتباع نفس الكتاب ممن يختلفون مع تأويلهم له، فضلا عن شن حروب الفرنجة تحت راية الصليب، وفى المقابل نجد من المسيحيين من يناضلون بحق ضد كافة ممارسات القتل والتمييز. 
ولا يختلف الأمر كثيرا بالنسبة لنا نحن المسلمين، ولعلنا لسنا فى حاجة للخوض فى تاريخ قديم نسمع عنه وقد نختلف حوله. يكفى أن ننظر حولنا الآن لنرى من يمارسون بالفعل أعمال القتل والتدمير معلنين أنها تمثل روح الإسلام وجوهره. إن قادة البعض يعلنون أن آية السيف قد نسخت كافة آيات المسالمة، وفى المقابل نجد منا من يعلنون بشجاعة ووضوح أن ذلك الزعم بأن آية السيف قد نسخت ١٢٠ آية من آيات الدعوة لا أساس له من الصحة، وأن جوهر الدعوة الإسلامية كان وما زال هو التسامح والحرية.
والسؤال الآن: ترى هل على المرء أن يدافع عن كافة تصرفات من ينتمون لجماعته الدينية مهما كانت دموية تلك التصرفات؟، هل ثمة بشر لا يخطئون؟، ترى هل على المسلم أو المسيحى أو اليهودى أن يحمل على عاتقه وقائع مخضبة بالدم لأنها لصيقة بمن ينتسبون إلى دينه؟، هل تفرض الأخوة الدينية على المرء أن يضع فى سلة واحدة أبناء جماعته الذين يدافعون عن التسامح والحرية مع من غامروا بحياتهم فى سبيل القتل والترويع؟، هل من المقبول أن يدين المرء تعصب الآخرين وجرائمهم دون أن يدين وبنفس القوة تلك الجرائم المنسوبة إلى أتباع دينه؟.
إن حقائق علم النفس السياسى فضلا عن وقائع التاريخ تبرز حجم الخسائر الباهظة التى تكبدتها وتتكبدها البشرية من جراء تشويه طبيعة الالتزامات التى يفرضها الانتماء للجماعة سواء كانت جماعة دينية أو سياسية أو قومية أو حتى أسرية. خلاصة القول: ثمة خيط رفيع ينبغى أن يفصل بين رسائل السماء الإلهية وممارسات البشر الدنيوية، وإذا ما اختفى ذلك الخيط، أصبح فى مقدور فرد أو جماعة أن يعلن أنه وحده صاحب القول الفصل فى مقاصد السماء، وأنه ظل الله على الأرض والناطق الأوحد باسمه تعالى. ومن ثم فلم يعد إصلاح خطابنا الدينى الإسلامى مجرد ضرورة فكرية؛ بل أصبح ضرورة حياة فى هذا العالم المضطرب. لا بد من صرخة عالية واضحة لا تلعثم فيها يساندها سلوك فعلى يجسد بشكل ملموس أن فهمنا وتأويلنا للإسلام لا مكان فيه لمحاولة إبادة الآخر المختلف أو حتى التضييق عليه.