رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي
رئيس مجلسي الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي

آراء حرة

"اشتباك" محمد دياب من "كان" إلى دور العرض المصرية

تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق google news
عربة ترحيلات اسمها الفوضى!
مع أن الأفلام هى مجرد «أكاذيب» ورؤى بصرية خيالية لا تستطيع التعبير عن الواقع مهما فعلت وادعت، ومع أن النظر إلى الأفلام باعتبارها مرآة أو تجسيدًا لواقع خطأ جسيم يؤدى غالبًا إلى فهم معطوب وحكم فاسد، إلا أن بعض الأفلام تجبرنا، شئنا أم أبينا، على الحديث عنها وفقًا لمدى مطابقتها للواقع والأحداث الماضية والجارية على أرض الواقع. وبعضها، مثل فيلم «اشتباك» للمخرج محمد دياب، الذى يبدأ عرضه فى مصر الأسبوع المقبل، يثير جدلًا وخلافًا عامًا بين الذى يعتبرونه «مرآة صادقة» للواقع، والذين يتهمونه بتشويه هذا الواقع والإساءة إلى الدولة والشعب، إلى آخر هذه الاتهامات المضحكة التى لم تزل تلاحق صناع الأفلام فى بلدنا.
الفيلم، كما سمعتم، تم اختياره للعرض فى مهرجان «كان» الماضي، ليفتتح به قسم مسابقة «نظرة ما»، المخصص للأعمال المتميزة للمخرجين الكبار والشباب، وقبل أن يشهد الفيلم عرضه الأول فى المهرجان العريق انهال وابل من السهام فوق صناعه بتهم من نوعية أنه «إخواني» الهوى، يدافع عن مرسى ويهاجم ٣٠ يونيو، يشوه بطولات الداخلية، ويتحسر على ثورة يناير. هذا النوع من الاتهامات ليس جديدًا على الحياة الفنية والإعلامية فى مصر، وإن كان الجديد هو درجة الاحتداد فى الخصومة ودخول الفضائيات، التى كانت أهدأ وأكثر مهنية عادة، على الخط. 
كناقد، ومحب لفن السينما، أشعر بعدم الراحة من الكتابة عن فيلم «اشتباك»، كما شعرت بها فى كل مرة أكتب فيها عن واحد من هذه الأفلام المثيرة للجدل، لأن حالة «الاشتباك» الإعلامى والمجتمعى خارج الفيلم من شأنها أن تتداخل حتما مع حالة «الاشتباك» الموجودة فى الفيلم. ولكن الضرورة تقتضى لأسباب فنية، وأسباب سياسية أيضًا، أن يدخل المرء إلى هذه الاشتباكات حتى لو كان يغامر بفقدان الموضوعية وبالتحول إلى طرف فى المعارك الدائرة.
مبدئيًا، وقبل أى شىء، من حق أى فنان أو كاتب أن يعبر عن رأيه كما يشاء، مهما كان رأى الغوغاء الذين يطاردون المبدعين والكتاب صباحًا ومساءً. وأى كتابة نقدية إيجابية عن فيلم «اشتباك» أو نفى للاتهامات الموجهة إليه لا يجب النظر إليها كمبررات للسماح بعرضه. مبدئيًا، وقبل أى شىء، من حق الفيلم أن يعرض بأمان تام، حتى لو كانت الاتهامات الموجهة إليه صحيحة، وحتى لو كان مستواه الفنى بالغ التواضع.
لكن المؤسف حقًا، بالنسبة للغوغاء الذين يكيلون الاتهامات بدون تروٍ أو عقل، هو أن الفيلم يخلو تمامًا من هذه الاتهامات، بل على العكس يكاد يكون نقدًا حادًا للإخوان ودفاعًا خالصًا عن الداخلية، لمن يعرف كيف يقرأ الأفلام.
يتخيل الفيلم الذى كتب قصته خالد دياب وشقيقه محمد، دياب، وأخرجه الأخير، عربة ترحيلات فى الشوارع خلال المظاهرات المؤيدة والمعارضة التى أعقبت ٣٠ يونيو وعزل مرسي، تتواجد داخلها بالصدفة شخصيات من توجهات سياسية وثقافية وطبقية مختلفة، يجسدها عدد متميز من الممثلين الكبار والشباب كلهم يستحقون الإشادة. 
فى البداية تحتجز الشرطة صحفيًا مصريًا من أصل أمريكى ومصورًا فوتوغرافيًا يساعده أثناء قيامهما بتصوير الاشتباكات، ويضعونهما فى العربة لحين انتهاء أحداث الشغب... ونتيجة الفوضى التى تسود الشوارع ما بين مؤيدى الإخوان والرافضين لهم، تقوم الشرطة باحتجاز عدد من معارضى الإخوان الذين يهاجمون سيارة الترحيلات اعتقادًا منهم بأن الصحفيين المحتجزين من الإخوان، وفيما بعد ينضم للعربة عدد من متظاهرى الإخوان الذين يعتدون على الشرطة ويرشقونها بالحجارة والرصاص.
داخل السيارة يختلف المحتجزون ويتشاجرون ويتصالحون، ويحاولون النجاة بأرواحهم وسط الاشتباكات الدامية التى تدور حولهم. مجموعة الإخوان داخل العربة تحاول إدارة الموقف لصالحهم فقط، كما فعلوا من قبل على مستوى البلد كلها، بينما باقى الفئات يتصرفون بعفوية وفردية، لا يجمعهم سوى رفض الإخوان. لكن مع تصاعد الفوضى والعنف، يجد المحتجزون، والشرطة، والمتظاهرون المؤيدون والمعارضون فى الشوارع أنفسهم فى موقف واحد يشتركون فيه جميعًا، وهو فقدان السيطرة على الأوضاع، وعدم القدرة على معرفة من «معنا» ومن «معهم». «الإخوان» يختلفون وينشقون عن بعضهم، فى الوقت الذى يتم فيه احتجاز جندى أمن مركزى مع المعتقلين، يفهم بالخطأ أنه حاول تهريبهم، ويعتقد الإخوان أنه «معهم»، ثم يتبين أنه مسيحي، وفى الوقت الذى يقوم فيه رجل مسن بمهاجمة الإخوان، يتبين أنه نزل للبحث عن ابنه، الذى انضم إلى الإخوان... وهكذا تتشابك التوجهات والعلاقات والطباع والشخصيات. شىء واحد لا يستطيع أن يفهمه كل هؤلاء «الحمقى» هو أنهم جميعا متشابهون، كلهم داخل عربة ترحيلات واحدة، قد تسقط بهم فى النهاية إلى هاوية الجحيم، بسبب غبائهم وتعصبهم وتناحرهم المقيت.
بعيدًا عن الرسالة التى يفترض أنها لا تغضب أحدًا، يتسم الفيلم بلغة سينمائية قوية وإيقاع مشوق متدفق خاصة فى نصفه الأول، وإن كانت لدى ملاحظة على سيناريو وإيقاع الثلث الأخير منه، حيث يرتخى الإيقاع كثيرًا، وتبدأ الشخصيات فى التحول من بشر من لحم ودم إلى نماذج ذهنية تتحدث بأفكار صُناع الفيلم، كل منها يجسد تيارًا أو اتجاهًا سياسيًا بعينه.
لولا هذه الملاحظة التى تثقل الفيلم فى ثلثه الأخير، كان يمكن لـ«اشتباك» أن يكون عملًا فنيًا عظيمًا لا يكفى أن يشارك فى مسابقة ثانوية فى مهرجان «كان»، أو أن يتم توزيعه فى عدد كبير من بلاد أوروبا والعالم، وإنما كان يمكن أن يكون فى المسابقة الرسمية للمهرجان، وأن ينتزع إحدى جوائزه، وأن يعتبر واحدًا من أهم أفلام عام ٢٠١٦.
أهم ما فى الفيلم، فى رأيى، هو نظرته الإنسانية التى تتجاوز الوضع المصري، حيث يمكن لعربة الترحيلات هذه أن توجد فى أى بلد فى العالم تضربه الانشقاقات السياسية والحرب الأهلية، فى الشرق الأوسط أو آسيا أو أمريكا اللاتينية.