الخميس 16 مايو 2024
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي
رئيس مجلسي الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي

آراء حرة

بعد اختيار بريطانيا "نحن".. مقابل "هم"

تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق google news
الصدمة التى استفاق عليها العالم نتيجة الاستفتاء الشعبى الذى أجرته المملكة المتحدة وظهرت نتائجه تعلن رغبة الشعب البريطانى الخروج من الاتحاد الأوروبى، ما هى سوى الجزء الظاهر من جبل الجليد.. فالوقت يبدو ما زال مبكرا على حسم التوقعات حول نتائج هذا الاستفتاء الذى أطلق الصراع السياسى بين الأحزاب الرئيسية فى بريطانيا لسد الفراغ الحكومى القادم، وفقا لقوانين النظام البرلمانى التى تخضع لها بريطانيا وظهور مخاوف من تقسيم المملكة المتحدة، مع إطلاق تصريحات تؤكد عزم أسكتلندا إجراء استفتاء يحسم انفصالها عن بريطانيا، وهو ما يعكس أيضا موقف أيرلندا نظرا لرغبتهما البقاء ضمن الاتحاد الأوروبى.. إذ رغم فشل الاتحاد فى احتواء الأزمة الاقتصادية فى اليونان ما زالت الدول الصغيرة ترى فى المجموعة الأوروبية طوق النجاة الذى سيؤمن لها الدعم الاقتصادى والسياسى. الإشكالية التى لا تقل خطورة عن الانقسام الجغرافى أو السياسى وتغيير الملامح المستقبلية لخارطة المملكة المتحدة.. هو الانقسام الاجتماعى بين الشعب البريطانى، فالذين أصروا على الخروج نسبوا معظم مشاكل بريطانيا إلى الاتحاد الأوروبى، مثلا قضية الهجرة كان لها تأثير كبير على نتائج الاستفتاء. حاليا أصبحت فى بريطانيا مدارس ومشاريع تجارية تخلو من أى تلميذ أو عامل أو موظف له جذور بريطانية. 
ألمانيا وبريطانيا هما أكثر الدول التى فتحت أبوابها للتيارات الإسلامية تحت بند أنه إما جزء من حرية ممارسة العقيدة وإما استيعاب ما زعموا كونه معارضة سياسية.. فى المقابل لم تتفاعل الأعداد الكبيرة منهم مع هذه المجتمعات التى وفدوا عليها، بل فضلوا الانغلاق داخل «جيتو» يلتزم بعاداتهم وطقوسهم، الأمر الذى أثار غضب الأحزاب اليمينية وأعطاها الفرصة لكسب المزيد من الشعبية عبر اللعب على شعارات استعادة الخصوصية الوطنية التى تتقلص على حساب تزايد المظاهر المستحدثة على النمط الاجتماعى الأوروبى، بل تمادت هذه الأحزاب فى توجيه غضبها إلى درجة الربط بين الإرهاب الذى يضرب أوروبا وقضية تدفق الهجرة دون أى ضوابط.. والدليل أن أحزاب اليمين المتطرف- وفق إحصاء أخير- تصاعدت خلال الأعوام الماضية نسب شعبيتها فى دول مثل إيطاليا وإسبانيا وفرنسا.. بالإضافة إلى استغلال هذه الأحزاب للشق الاقتصادى فى قضية الهجرة.. إذ تصاعدت نسبة البطالة بين مواطنى هذه الدول نتيجة المنافسة الشرسة القادمة سواء من دول أوروبية تعانى من ضعف اقتصادها أو أخرى قادمة من الشرق الأوسط نتيجة الاضطرابات السياسية للبحث عن فرص عمل بأقل الأجور والشروط.
على الصعيد الأمني، لم يقدم الاتحاد نموذجا ناجحا للتنسيق الأمنى بين الأجهزة الاستخبارية للدول الأعضاء كما أظهرت نتائج التحقيقات فى الهجمات الإرهابية التى شهدتها فرنسا وبروكسل وألمانيا وقبلها بريطانيا. هذا الكيان الذى دبت البيروقراطية فى مفاصله وفقا لشهادة مسئولين فى برلمان الاتحاد الأوروبى، كانت قراراته فى بعض المواقف خاضعة لتأثير جهات غير موثوق بها، استغلت منبر البرلمان لبث توجهاتها المشبوهة، لعل أقرب هذه الأمثلة محاولات جماعة الإخوان بث أكاذيبها المستمرة بهدف التأثير على مواقف الاتحاد الأوروبى. 
الارتباط السياسى التاريخى بين بريطانيا وأمريكا دفعها العقود الماضية إلى التورط كشريك أساسي فى جميع المغامرات العسكرية التى خاضتها أمريكا فى الشرق الأوسط منذ ٢٠٠٣، وإذا كانت وسائل التأثير على الرأى العام بالإضافة إلى المستوى المحدود لثقافة المواطن الأمريكي فكلها عوامل سمحت للسياسة بإجراء أكبر عملية خداع للرأى العام الأمريكى وإقناعه بجدوى هذه التدخلات العسكرية، بينما هى فى الواقع دفعت المنطقة العربية إلى دائرة الفوضى. يختلف هذا الأمر تماما مع الرأى العام البريطانى الذى تمثل سماته وثقافته النقيض تماما لثقافة «الكاوبوى الأمريكي». بريطانيا قطعا لن ترغب فى تكرار إقحام نفسها فى الصراعات الدائرة فى عدة دول بالمنطقة العربية، خصوصا أن تكلفة هذا التدخل كانت باهظة على المجتمع البريطانى، كما تزداد مع تدفق الهجرة من مناطق الصراعات المخاوف من الإرهاب الذى أصاب دول أوروبا مؤخرا بضربات موجعة. 
على الصعيد الاقتصادى، من المنتظر أن تتجه بريطانيا بقوة إلى التوسع فى عقد اتفاقيات تجارية جديدة مع دول المنطقة التى تحظى بفرص استثمار كبيرة - أبرزها السعودية ودول الخليج- خصوصا أمام المنافسة التى تزداد مع تنامى الصين كقوة اقتصادية هائلة. 
رغم تصريحات الرئيس أوباما أن بريطانيا والاتحاد الأوروبى سيظلان شركاء لأمريكا.. إلا أن العديد من البنوك والشركات الأمريكية الكبيرة أعلنت عن مغادرتها بريطانيا فور إعلان نتائج الاستفتاء، وهو ما يؤكد الهواجس والمخاوف الأمريكية ليس على الصعيد الاقتصادى فحسب لكن أيضا لأن القرار البريطانى سيضفى المزيد من الدعم لموقف الرئيس الروسى بوتين وعودة الحضور الروسي- سياسيا وعسكريا- إلى الساحة الدولية والمنطقة العربية تحديدا.