الخميس 16 مايو 2024
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي
رئيس مجلسي الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي

آراء حرة

وماذا بعد؟

فرج فودة
فرج فودة
تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق google news
لعلي نجحت فى أن أوازن بين وجهى الصورة، التى نقلوها لنا حلمًا فأنزلناه فى رفق إلى أرض الواقع، فإذا به واقع مُر، قليلًا ما يسر، وكثيرًا ما يفجع، ولست أدرى: هل أصبت أم أخطأت؟ وهل كان عليَّ أن أفعل ما يفعله الكثيرون، حين يتجاهلون ما يقرب من ألف عام من حكم الأمويين والعباسيين، لكى يتوقفوا أمام عامين لا أكثر، هما فترة حكم عمر بن عبدالعزيز؟ وحين يختارون من فترة الراشدين ما يدير الرؤوس وما يدفع الشباب الغض إلى محاولة تحطيم المجتمع، طامعًا فى أن يعيد أيامهم، ويـبنى على منوالهم، بينما لو تأملنا فترة حكمهم الكاملة لتمهلنا كثيرًا، وتحسبنا كثيرًا، وربما حمدنا الله على ما نحن فيه، ليس هجومًا عليهم – معاذ الله – فهم فى أعلى عليين كصحابة أجلاء، وفقهاء دين عظماء، لكنا نتناولهم من زاوية أخرى هى زاوية السياسة، ونقيمهم بميزان آخر هو ميزان الحكم، وهم من هذه الزاوية، وبهذا الميزان، بشر يجوز عليهم ما يجوز علينا من نقد، ويتعرضون لما نتعرض له من أخطاء، وحسب القارئ أن يتأمل معنا فترة حكمهم، ويتعجب وهو يرى ثلاثين عامًا، يتعاقب فيها أربعة خلفاء، يموت ثلاثة منهم بحد السيف أو الخنجر، واحد على يد غلام مجوسى وهو أمر يفجع، وواحد على يد الرعية وهو أمر يفجع ويفزع، وواحد على يد مسلم متطرف وهو أمر يفزع، ويقضى الخليفة الأخير فترة حكمه كلها ساعيًا إلى التمكن من الحكم سدى، وإلى فرض ولايته على الدولة الإسلامية كلها دون جدوى، وينتهى به الأمر محصورًا فى الكوفة داعيًا الله أن يبدله خيرًا من قومه، وأن يبدل قومه أسوأ منه.
ثم لعلنا ننزعج ونحن نكشف أن الفترة على قصرها قد حفلت بالحروب الأهلية الكبرى، فقد بدأت بها، وانتهت بها، بدأت بحروب الردة فى عهد أبى بكر، وانقضت سنواتها الخمس الأخيرة فى سلسلة من الحروب الأهلية أولها حرب الجمل بين كبار الصحابة، ثم حرب صفين بين على ومعاوية، ثم حرب النهروان بين على والخوارج عليه، ثم سلسلة متصلة من الحروب الصغيرة بين جيوش على وجيوش الخوارج، وحسبنا أيضًا أنها بدأت مقبلة على الدين من الخليفة ومن الرعية، وانتهت مقبلة عليه من الخليفة، مدبرة عنه من الرعية بقدر إقبالها على الدنيا، دليلنا على ذلك ما ذكرناه من ثروات، وما رصدناه من اقتراب حثيث من معاوية، وابتعاد حثيث عن على، وإذا كان البعض فى البداية قد قارن بين الطعام الشهى على مائدة معاوية، والحق الجلى على لسان على، فإن النهاية كانت انتصارًا لا شك فيه للطعام الشهى، واندحارًا لا شبهة فيه للحق الجلى، وما هكذا كان الإسلام الدين أو يكون، لكنه هكذا كانت الدولة الإسلامية وهكذا تكون، شأنها شأن أى دولة دينية على مدى التاريخ الإنسانى كله، لا يغرنك فيها عذب الحديث فى البدء، فالعبرة بالخواتيم، وقد كانت الخواتيم مرة دائما، وأمر منها ألا نستوعب درسها، وألا نستفيد من تجربتها.
وأن يدعو البعض إلى تكرارها فى بلاهة يحسدون عليها، وكأنه مطلوب منا أن نقرأ التاريخ لكى نعيد أخطاءه.
وإذا كنا نتحدث هكذا عن عهد الراشدين، فكيف يكون الحال على يد المعاصرين، الذين لم نعرف الإرهاب إلا على أيديهم، ولم يعرف مجتمعنا الآمن حوادث الاغتيال السياسى إلا على يد فرسانهم المغاوير، ولم ترق دماء الأبرياء إلا على يد مجاهديهم الأشاوس، وحتى فى انتخابات الاتحادات الطلابية الأخيرة، لم يفتهم أن يرفعوا شعارًا غريبًا يعكس أسلوب تفكيرهم، وهو «صوتك دانة» وكأنهم لم يميزوا بعد بين الديانة والدانة ولم يعرفوا من الإسلام إلا العنف والإدانة، ولم يروا فيه ما رأيناه من وجوه كلها سماحة ونور ورحمة.
وربما تصور القارئ فى بعض أجزاء الكتاب أننى أحرض الدولة على المتطرفين وأدفعها إلى مواجهتهم، ولعلى أصحح له، فالمقصود ليس مواجهة التطرف فى الفكر، وإنما المقصود هو مواجهة العنف، ومقاومة الإرهاب، ولعل أحدًا يدلنى على كيفية مقاومة العنف بالقبلات، ومواجهة السيف بالأحضان، واستقبال القنابل بالكلمات الدافئة، ولعل المنكرين علىّ ما يرونه تشددًا، ينظرون حولهم إلى أعرق دول العالم فى الممارسة الديمقراطية، ليشاهدوا كيف يواجه العنف فى أيرلندا، وكيف تواجه إيطاليا إرهاب الألوية الحمراء، وكيف تواجه ألمانيا الغربية البادر ماينهوف؟
وكيف لم يتوقف أحد لكى يحلل دوافعهم أو يبرر أفعالهم، كما يفعل البعض هنا، عن تصور الموقف الصحيح، طالما أن الإرهابيين أعداء لخصمه اللدود: الدولة، بينما لو فكر قليلًا، لأدرك أن المستهدف ليس الدولة، بل النظام الذى نحن جميعًا جزء منه، والأمان الذى نسعى جميعًا إلى تحقيقه وصونه، والشريعة التى هى الموئل والملاذ، ولو كان صبية الجهاد أو أمراؤهم أهل حديث لنصحت بحوارهم، ولو كانوا أهل رحمة لنصحت بمجادلتهم بالحسنى، ولو كانوا أهل نكير لدعوت إلى مقارعتهم بالحجة، لكنهم تجاوزوا النكير إلى التفكير، وتجاوزوا القول إلى القتل، وتجاوزوا المنطق إلى حل الدم، وهنا لا مفر من إكمال مسيرة الديمقراطية، حتى لا يحتجوا علينا بضيق الساحة، ولا مفر من الرد على دعواهم بالمنطق حتى نجتذب منهم من بقى فى قلبه مساحة للسماحة، ولا مفر من إعمال نصوص القانون لردع العنف وعزل أصحابه عن حركة المجتمع ومساره، وفرزهم بعيدًا عن المعتدلين فى التيار الإسلامى السياسى، وفيهم أساتذة أجلاء وعلماء أفاضل، ومحاورون قادرون، وأهل علم وفقه، ورجال سماحة وفضل، وهم وإن اختلفوا معنا يدعون لنا بالهداية، وندعو لهم بالمثل، دون أن يكفرونا ودون أن يفقدوا من احترامنا ذرة.
هم يؤمنون بالإسلام دينًا ودولة، وهذا حقهم، ونحن نراه ونؤمن به دينًا فحسب وهذا حقنا، وبعضهم يؤمن بالعمل السياسى، ومن حق هذا البعض علينا أن نسانده فى دعواه، وأن نرفع عقيرتنا بأعلى صوت مطالبين له بمنبر الرأى، وهم فى النهاية معنا فى خندق واحد، لأن موقف الإرهابيين منهم أشد، ونذيرهم لهم أعنف، ونكيرهم عليهم أقسى، وحكمهم عليهم أسوأ، ولو صدقت النوايا لوصلنا معه إلى كلمة سواء، ولتقابلنا فى منتصف الطريق، هم بالاجتهاد المستنير، وبرؤية العصر ومعايشته، وبقبول متغيراته، وبتقدير ظروفه، وبالتأسى بعمر فى اجتهاده، وبالإيمان بالوحدة الوطنية، وبالإنصاف لقوانيننا الحالية، ونحن بإدراك أن الديمقراطية تسعنا وتسعهم، وأن المستقبل لنا دون إنكار لهم أو عليهم، وأن مصر أغلى من المزايدة عليها بالقشور لا الجوهر، والمظاهر لا المضامين، وأن الإسلام الصحيح هو التقدم، وهو مصلحة المجتمع، وهو إلحاق بالحضارة، وهو تحصيل العلم، وأن المساحة الخصوصية فى قضية الدين أوسع وأرحب، وأن فرض الرأى على الآخرين لا يجوز، وأن التشريع للبشر، أما مبادئ التشريع وأصول العقيدة فهى لله، وأن الإسلام يعنى بالغايات قبل الوسائل.
وأن العصر الأول للإسلام لن يأتى إلينا، وأننا لن نعود إليه، فكلا الأمرين مستحيل، وأن التفكير يسبق التكفير، والعقل يسبق النقل، والسماحة تسع الجميع، وأن الحساب آت لا محالة، فى الآخرة وليس فى الدنيا، وأن الإسلام لا يعرف الكهنوت، ولا يعرف رجال الدين، ولا يعطى قدسية لأحد، ولا يمنح عصمة لأحد، ولا يمنع النقد عن أحد، فلا عصمة لأحد غير الرسول، ولا قدسية لأحد غيره، وأنه ليس فى الإسلام أزياء، وليس له ألقاب، وليس لأحد كائنًا من كان أن يدعى أنه حامى حمى الإسلام، فكلنا مسلمون، وكلنا حماة الإسلام، وكلنا أيضا حماة الوطن، كل الوطن، وكلنا عشاق له، وكلنا مناضلون من أجله، أرضًا وسماء، مسلمين وأقباطًا، لسنا فاتحين وليسوا أسارى حرب، نحن جميعًا مواطنون، لسنا أغلبية وليسوا أقلية، نحن جميعًا مصريون، لسنا حكامًا وليسوا محكومين، نحن جميعًا حاكمون محكومون، وكلنا عشاق له الأرض، وكلنا مدافعون عنها، وقبل ذلك كله مدافعون عن وحدة الصف وتلاحم الصفوف.
يا إلهى.
كم تردى المناخ وكم نحن فى حاجة إلى عودته من جديد كما كان، أحكى لكم، واسمحوا لى، عن قصة لا أتذكرها إلا ويطفر الدمع، ويهتز الوجدان، وهى قصة حدثت منذ سنوات قريبة، يوم تشييع جنازة عريان سعد، وعريان سعد قبطى مصرى، تطوع لقتل يوسف وهبة رئيس وزراء مصر، القبطى الديانة، والذى قبل رئاسة الوزارة فى مصر حين امتنع الوطنيون، حتى لا يكون القتل على يد مسلم فتثور الفتنة، وقد نجا يوسف وهبة، وسجن عريان سعد، وعندما دق ناقوس الكنيسة لحظة تشييع جثمانه، تصادف أن علا صوت مئذنة مجاورة بالأذان، وهنا أجهش الجميع بالبكاء، وشعر الجميع أنه هكذا يكون وداع عريان.
لنا أن نبكى معهم بكاء الرجل العظيم، على رمز عظيم شيعناه، وتراث عظيم أضعناه، وتاريخ عظيم نسيناه.
أقسم لك يا عريان، أن الأذان والناقوس سوف يتعانقان على هذه الأرض دائمًا، فالكل عابد لله، عاشق للوطن، وسوف تبقى مصر يا عريان شامخة كما أردت وكما نريد، منيعة على الفرقة، مستعصية على الفتنة، مستحيلة الانقسام.