السبت 27 أبريل 2024
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي
رئيس مجلسي الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي

ملفات خاصة

محمد العسيري يكتب: عرفتهم "29".. "أنغام".. تُراب صوتها زعفران

محمد العسيري وأنغام
محمد العسيري وأنغام
تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق google news
فى القرى البعيدة لا يعرف الأطفال معنى لكلمة «النادي» سوى أنه المكان الذى تقام فيه مباريات الكرة.. كل القرى التى كنت أعرفها حينها ما كنش فيها غير نوادى الكورة.. وبالعافية ممكن تلاقى ترابيزة «بينج بونج».. فلما تطلع واحدة تقولك إنها رايحة تستنى حبيبها فى النادى.. يبقى أكيد هيبقى فيه بينك وبينها حاجز.. ولما كان الميعاد اللى كان صاحبنا مديهولها يطلع لسه ما جاش وباقيله يوم بحاله.. هتقول عليها عبيطة.. فى أحسن الأحوال مطيورة.. بس الغريب أننا لا عملنا بينها وبينا حاجز.. ولا قلنا عليها أى حاجة وحشة.. بالعكس انطربنا.. وقعدنا نسأل عن البنت الصغيرة النحيفة التى تتحدث عن ذلك «الركن البعيد» الذى صار موطنا لحبيبة لم تكن قد جاءت بعد.. وحينما رحلنا من قرانا إلى المدن الخشبية.. رحنا نبحث عن أبواب السينما.. وملاعب «الساحة».. و«ركن أنغام البعيد» فى نادى العاصمة.. حدث ذلك حتى قبل أن تكون هناك حبيبة «نعزمها على اتنين لمون».. ورغم أننا حينما أحببنا لم نستدعها لنحب على صوتها واستبدلناها بسميرة سعيد.. ووردة ونجاة.. إلا أننا اعتبرناها واحدة «قريبتنا».. ممكن نتكلم معاها «ونتونس بصوتها»..
وقتها نجح ألبوم «أنغام» بشكل غير محدود.. وصار المتحدثون فى الراديو والتليفزيون يبشرون بميلاد مطربة كبيرة من فصيلة أم كلثوم ونجاة وفيروز.. وصرت مرغمًا أتتبعها..
وظل الأمر مجرد ارتباط نفسى حتى ورطها «عاطف الطيب» فى دور فتاة الأحلام، وهو يخرج لها فيديو كليب «تحفة» لأغنية «شنطة سفر» التى كتبتها شاعرة رائعة اسمها فاطمة جعفر- لا أعرف أين ذهبت بعد هذه الأغنية؟- وجاء بالنجم الشاب طارق لطفى ليلعب دور الحبيب الذى قرر الرحيل للغربة وترك «فتاته» فتاة أحلامنا وحيدة فى شارع المطار..
كنا نعرف السفر.. ومافيش بيت صعيدى ما فيهوش واحد مسافر. نعرف يعنى إيه غربة.. لكننا قطعًا لم نكن نعرف هذه اللغة فى الغناء.. كانت الكلمات جديدة ومختلفة عن أغنيات شادية ووردة.. «خليك هنا خليك وبلاش تفارق مثلاً»!!
بدأنا ننتبه.. وكان لعيوننا الحظ أن تشهد ميلاد هذه «السيمفونية» وهو تؤسس لأغنية لم تكن معتادة مع والدها الموسيقار الفذ محمد على سليمان.. الطيب: «صورة الأب الذى يقدم ابنته لعالم الموسيقى» تجاوزها الجميع وهم يترنحون معها:
«خد قلبى وهات قلبك هاته
يا بو قلب.. حياتى فى دقاته
الحب ده عقد من الياسمين
وقلوب العشاق.. حباته»..
لقد تسللت البنت «أم الضفاير» إلى مشاعرنا دون أن ندرى ونبنى لها بيتا فى ضلوعنا.. ولن تخرج بسهولة.. وكان أن أدمنت هذا الصوت..
فى بداية زواجى لم تكن «أم فضل» تعرف عاداتى فى السماع.. وكنت قد تعودت أن أبحث عن «الغنوة اللى بتزن فى ودنى حتى لو كنت نايم».. نغمة ما تطاردنى.. مقام موسيقى محدد يسيطر على أذنى لأيام حتى يستغرقنى تماما.. وكثيرا ما حدث أن قمت من نومى كالمفزوع أتسلل إلى حجرة المكتب.. وامرأتى تستغرب الأمر حتى تجدنى أدير الكاسيت وصوت «أنغام» يصدح..
وفى أول مقابلة لهما.. زوجتى وأنغام فى حجرتها فى كواليس مسرحية «رصاصة فى القلب» اندهشت «أم فضل» من بشاشة أنغام وطريقتها فى التعامل.. فأدركت أنها «حالة خاصة» برجل يعشق الغناء وهذه مطربته المفضلة..
هل هناك عيب فى أن تكون لك مطربة مفضلة؟.. لا أحب صوت أم كلثوم.. وأعشق معظم أغنيات نجاة وفايزة ويأسرنى صوت وردة.. ويأخذنى عالم فيروز لمساحات غير محدودة من إنسانية أفتقدها.. وأكاد أشعر أنى فى حلقة زار عندما أستمع «إيما سوماك».. مطربة من عالم آخر.. صوتها آلات خشبية من صنع الطبيعة.. لكن أنغام وحدها يمكن أن تجمع كل هؤلاء فى صوتها، هكذا أتعامل معها.. مع صوتها تحديدًا..
لا أعرف فى أى شهر من عام ٢٠٠٢ حدث أن كانت أنغام ضيفة على برنامج بالقناة الثانية يعده عمر طاهر الذى طلب منى أن أعلق على ألبوم «سيدى وصالك» الذى كان قد صدر منذ ثلاثة أيام فى وجود أنغام.. وأثناء الحلقة حدث ذلك وفرحت أنغام بوجودى على الهاتف.. لكنها فوجئت بأننى غير سعيد بذلك التغير القسرى لطبيعة الموسيقى التى اعتدتها.. ورأيت أن بالألبوم اتجاها لا يليق بحنجرة أنغام نحو موسيقى غربية- وهذا ليس عيبا- لغرض لا يليق بأنغام وهو البحث عن «موضة موسيقية».. وغضبت أنغام.. وقاطعتنى لمدة عام ونصف العام.. كلما التقينا خاطبتنى بالأستاذ محمد!! وفى حفل توقيع ألبومها التالى «عمرى معاك» عزمنى محسن جابر على حفل افتتاح الألبوم وذهبت لمجاملته، وفوجئت أنغام بوجودى وبجوارى ملحن «سيدى وصالك وعمرى معاك» شريف تاج.. فلم تستطع أن تغالب زعلها منى.. وقالت «بص.. عمرى ما هنسالك»!! وضحكت كأنها تقول لي: «اصطلحنا.. بس مش هنسى»..
سمعت من أنغام الكثير أثناء أزمتها مع والدها.. وظن الرجل أننى أجاملها وأقف فى صفها ضده.. وحرصت طيلة ذلك العمر الذى استمر فيه الخلاف على ألا أكتب حرفا عنه.. لكننى أعتقد أن أهم ما يميز أنغام هو «عنادها».. حتى مع نفسها.
فى شقة أنغام القديمة بميدان لبنان.. ستواجهك صورة عماد عبدالحليم - عمها - تشعر أنه الرجل الوحيد الذى احتواها كطفلة.. أخرج كل ما فى طفولتها من ألعاب وحين رحل رحلت معه هذه الطفلة.. من يريد أن يكتشف سر علاقتها بعمها عليه أن يسمعها وهى تغنى له رائعة «على مهدى وحلمى بكر»:
«فى قلبى جرح من الدنيا وعمهايلها..
وأيامى اللى ظلمانى وبحايلها»..
تشعر أنغام بقيمة صوتها.. لكن السوق ولسنوات لم يكن تعرف قيمتها.. قيمة أن يكون لدينا صوت «ترابه زعفران».. صوت يشعر بالوحدة..
«أنا وحدانية ما مسح دموعي
غير طرف كمى...».
لكن هذا الصوت الوحدانى الذى يعرف قيمة نفسه.. عنيد.. لم تعمل مع منتج يختلف معها حول ما تقدمه.. لم تغن فى حفل لا ترتاح لمنظميه.. لا تذهب لبلد لا تشعر أنه يعرف أنها الملكة المتوجة.. هى ليست مغرورة على الإطلاق.. وإذا ما شعرت بالراحة مع محدثها يمكن أن تسرد له كل ما تخفيه من أول لقاء.. والدتها المطربة الإسكندرانية «أمل» بعازف الكمان الإسكندرانى محمد على سليمان.. ومرورًا بمجيئهما للقاهرة.. فى صوت أنغام وتصرفاتها معًا غموض بحر الإسكنرية.. وحدته ونعومته وشقاوته أيضًا.. وعناده..
عاندت أنغام ظروف السوق وغنت مقيدة لأمل دنقل فى وقت نغنى فيه لشعبان عبدالرحيم.. غنت لعصام عبدالله ووائل هلال وعزت الجندى.. حاولت دمج كل ما هو جديد فى الغرب مع أقرب نغمة شرقية.. ورأسها مرفوع لا شيء يناطحه سوى تجربة فيروز.. تغنى لزكريا أحمد «القلب يعشق كل جميل».. وهى كذلك.. تغنى للموجوى وبليغ وكمال الطويل ومحمود الشريف فى الجلسات الخاصة.. وتأخذ من تجلياتهم ما ترى أنه «لايق عليها»، لكنها لا تتوقف عن البحث عن أغنيتها الخاصة.. ولهذا يمكنها أن تحتفظ لعشر سنوات كاملة بكلمات ما.. ثم تفاجئك بطرحها فى السوق.. لم تنزعج من نجاح اللبنانيات اللاتى نجحن فى «خطف السوق والموسيقى» وعمليات شد وجه مكشوفة واستمرت تغنى «ألقالك حد.. ساعدنى وأساعدك.. ما جبش سيرتى.. بعتلى نظرة.. ما بتعملش».. لكنها ودون أن تخبر أحدًا لم تتوقف عن التعليم حتى امتلكت زمام نفسها.. ولجام أغانيها فصار لها لونها.. وقصتها التى لا يمكن لأحد غيرها أن يفسرها.. لسنوات طويلة تناطح أهل الخليج لهجتهم.. وإيقاعاتهم الصعبة.. حتى صار كبار نجوم الخليج يتمنون مشاركتها أغنياتهم.. لم تشعر بالغيرة من ذكرى - ذلك الصوت الربانى الفذ - بل ناطحتها الغناء فى دويتو نادر.. وكذلك تفعل مع أصالة كثيرا.. تحب شيرين ومى فاروق وتتحيز لكل ما هو مصرى بشرط.. أن يكون حقيقيًا..
لم تعد أنغام تلك الفتاة التى تذهب لمواعيد حبيبها مبكرًا فى الركن البعيد الهادئ.. صارت أمًا لعمرو عبدالرحمن.. وناظرة لمدرسة باسمها فى الغناء العربى.. وما زلت أبحث عنها وعن صوتها «فى نصاص الليالي».. ولو مش مصدقنى أكتبلك تعهد..