الإثنين 13 مايو 2024
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي
رئيس مجلسي الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي

آراء حرة

أكاذيب حقيقية

تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق google news
أصابنى الدوار خلال متابعتى للقصف الوثائقى الخرائطى المتبادل بشأن حقيقة ملكية جزيرتى تيران وصنافير وكانت كل الوثائق والخرائط تبدو حقيقية ومتعارضة فى نفس الوقت، وحيث إننى مثل الغالبية من المهتمين والمتابعين؛ لست متخصصًا فى الجغرافيا والوثائق، فقد رسخ لدى يقين أنه لابد أن ثمة شيئًا غاب عنى يفوق قدرتى على التمحيص. ثمة جانب من تلك الوثائق والخرائط والشهادات التى تبدو لى حقيقية، هى فى حقيقة الأمر كاذبة أو على الأقل مشوهة؛ وأن من اصطنعوها محترفون لهم هدف خبيء هو التدليس على أمثالى من غير المتخصصين بحيث يدفعونهم إلى تبنى مواقف سياسية محددة. وعدت إلى جولتى لسنوات ماضية فى صفحات التواصل الاجتماعى، وذلك الكم الهائل من الصور واليوتيوب التى بدت لى حقيقية تمامًا ثم اكتشفت أنها زائفة تزييفًا قد يصعب اكتشافه.
وتذكرت كتابًا أصدره الأمريكيان جون ستوبر وشيلدون رامبتون عام ٢٠٠٣ بعنوان «الخداع الشامل: استخدام الدعاية فى حرب بوش على العراق» وأفردا فيه فصلًا بعنوان «أكاذيب صادقة» أشارا فيه إلى الشهور التى سبقت الغزو الأمريكى للعراق، حيث توقع المعلقون السياسيون الأمريكيون أن الشعب العراقى سيرحب بالجنود الأمريكيين كمحررين من الحاكم الديكتاتورى، وبدا مشهد إسقاط وتحطيم تمثال صدام حسين، وكأنه البرهان على أنهم كانوا على حق. وسارع المعلقون الإعلاميون بعد وزير الدفاع الأمريكى دونالد رمسفيلد، إلى تعليق مزيد من الأهمية الرمزية على سقوط التمثال، وصنفه البعض، من حيث الأهمية، إلى جانب سقوط جدار برلين والمواجهة بين المحتجين والدبابات فى ساحة تيانامين، والأحداث العظيمة الأخرى التى تمّ بثها تليفزيونيًا، بل إن توم بروكار، مراسل أن بى سى قارن الحدث مع «إنزال جميع تماثيل لينين عبر الاتحاد السوفيتى» وقالت صحيفة الواشنطن بوست «العراقيون يحتفلون بذلك فى بغداد»، إلى غير ما هنالك من التعليقات التى ضجّ بها الإعلام الأمريكى. 
إلا أن هذا الكتاب يوجه النظر إلى مسائل على قدر كبير من الأهمية، حيث يقول المؤلف ونقلاً عن صحيفة البوسطن غلوب، أنه عندما تراجعت آلات التصوير إلى الخلف، كشفت وجود حشد صغير نسبيًا حول التمثال. حيث أظهرت صورة عن بعد التقطتها وكالة رويتر لساحة الفردوس أن الساحة كانت خالية تقريبًا، ومحاطة بالدبابات وجنود المارينز الذين تقدموا لإغلاق الساحة قبل السماح للعراقيين بولوجها. كما أن سلسلة من الصور التقطتها محطة بى بى سى لعملية إسقاط التمثال تظهر أيضًا حشدًا متناثرًا يتكوّن من ٢٠٠ شخص تقريبًا، وهو حشد أصغر بكثير من المظاهرات التى انطلقت بعد تسعة أيام فقط، عندما خرج آلاف العراقيين إلى شوارع بغداد مطالبين القوات الأمريكية بمغادرة المدينة. ويفيض الكتاب بعرض العديد من الصور الكاذبة التى حركت مشاعرنا كصورة الفتاة الكويتية نيرة التى شهدت بالصوت والصورة كيف أنها رأت بعينيها انتزاع الأطفال من الحضانات بالكويت، وقد ثبت بعد ذلك أن القصة ملفقة تمامًا.
ويشير المؤلف إلى أن الصور البصرية، بالطبع، هى أكثر ما سيتذكّره الناس، وخاصة الأمريكيين، بما فى ذلك الـ ٣٠٠ ألف جندى الذين خاطروا بحياتهم بإخلاص وصدق، واعتقدوا بأن «عملية تحرير العراق» كانت قضية نبيلة، وأنهم كانوا يساعدون على جعل العالم مكانًا أفضل وأكثر أمانًا لهم ولمن يحبون. 
ويرى المؤلف أن السبب فى ذلك الإخراج المتقن لمشهد إسقاط تمثال صدام بحيث يبدو كما لو كان قد حدث بشكل تلقائى كما أُريد له أن يبدو؛ إنما يرجع لمهارة وحرفية من قام بإخراج وتصوير المشهد وهو الخبير الأمريكى جون دبليو ريندون.
فى عام ١٩٩١، وبعد أشهر قليلة من انتهاء عملية (عاصفة الصحراء)، أصدر الرئيس جورج بوش الأب أمرًا رئاسيًا إلى وكالة الاستخبارات المركزية للقيام بعملية سرية للإطاحة بصدام حسين، وقامت الوكالة بدورها باستئجار مستشار العلاقات العامة جون دبليو روندون لتنظيم حملات دعائية مضادة لصدام حسين داخل العراق.
ولعلنا نتعرف على طبيعة مهمة ذلك المستشار من خلال الملاحظات التى أبداها مستشار العلاقات العامة جون دبليو ريندون، فى ٢٩ فبراير١٩٩٦ أمام مجموعة من طلبة أكاديمية القوات الجوية الأمريكية حيث عرف نفسه بقوله «أنا لست متخصصًا استراتيجيًا فى الأمن القومى أو خبير تكتيك عسكرى.. أنا سياسى وشخص يستعمل الاتصال والعلاقات العامة لتحقيق السياسة العامة أو أهداف السياسة الخارجية. فى الحقيقة أنا محارب معلوماتى ومدير فهم وإدراك Director Of Perception Management». وتعرف وزارة الدفاع الأمريكية «إدارة الفهم والإدراك» باعتبارها تتولى إيصال أو إنكار معلومات ومؤشرات مختارة إلى المشاهدين الأجانب للتأثير على عواطفهم، دوافعهم، وموضوعية تفكيرهم. 
فرغت من قراءة تلك السطور وعدت إلى متابعة ما تفيض به وسائط الاتصال الاجتماعى من صور وخرائط ووثائق ليعاودنى الدوار من جديد، وتنهمر على عقلى التساؤلات: هل ثمة من يتولى إدارة فهمنا وإدراكنا للحقيقة؟ ترى هل ثمة جهات مختلفة متصارعة تتولى تلك الإدارة؟
كلمة أخيرة
لقد قال القضاء كلمته بشأن جزيرتى تيران وصنافير؛ وطعنت الحكومة على الحكم؛ وتفاءلت خيرًا بصدور الحكم والطعن عليه، ورددت بينى وبين نفسى لعلها بداية لعودة القضاة إلى مكانتهم العالية بعيدًا عن الحكومة وأيضًا عن الجماهير؛ ولكن اكتشفت سذاجتى: البعض أخذ يتصايح ناقدًا الحكم؛ والبعض اعتبر الحكم مؤامرة لكى تنقضه المحكمة العليا، ومن ثم يسقط فى يدنا، والبعض أخذ يصرخ مطالبًا باعتباره حكمًا نهائيًا؛ واكتشفت آنذاك أننا قطعنا شوطًا طويلًا فى امتهان القضاء. شوطًا بدأ فى مايو ٢٠٠٦ فكتبت آنذاك محذرًا؛ وتكررت الواقعة فى إبريل ٢٠١٣ فكتبت مرة أخرى، ويبدو أن ما كنت أحلم به قد أصبح وهمًا ولا حول ولا قوة إلا بالله.