الأربعاء 24 أبريل 2024
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي
رئيس مجلسي الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي

آراء حرة

"خطّي العتبة".. روشتة علاج مبتكرة لأوجاعنا ومعاناتنا

تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق google news
يجمع القدر ثمانية أشخاص غرباء في رحلة سياحية بالباخرة إلى أوروبا عبر البحر المتوسط إلى إحدى الجزر المنعزلة، إلا أن الباخرة لم تعد لاصطحابهم مرة أخرى، فيلتقون، وكل منهم يحكى حكايته، وينسجون بخيالاتهم حكايات جديدة حول أنفسهم، وحول بعضهم، وحول تصوراتهم للمجتمع، وحياتهم، واحتياجاتهم، وأفكارهم.
تحكى الشاعرة «حسناء» أزمتها مع العمر، وخوفها الدائم، وإخفاقها في التعبير عن مشاعرها، وموظفة مجمع التحرير «مدام محروس» التي تلتحق بقطار الزواج بعد فوات الأوان، وحياتها مع زوجها «اللى شطب خلاص»، «واهى جوازة والسلام»، والمهندسة «لمياء» التي تنغلق بسبب فقر أفكارها عن نفسها، لتلعب دور الصندوق الأسود أو الكاميرا، التي تلتقط أدق تفاصيل أسرار كل من حولها، والتي تمارس عادتها في التلصص، والتقاط الصور - خفية - على الجزيرة، لتكشف كل شخص بوضوح أمام نفسه، وسائق التاكسى «محمود» الذي تحمل المسئولية مبكرًا، ثم تعلق بسائحة تكبره بسنوات عديدة، وأخيرًا بفتاة متزوجة «لولو» في هذه الرحلة، وسالى «لولو» التي تعبر عن مشاعرها بالفرحة أو الألم بالرقص طول الوقت، وتفتقد تدليل أبيها، وتسوء علاقتها بزوجها «يوسف»، الذي يحاصرها بكآبته المستمرة، وضابط الشرطة «عصام» الذي أتى للاستشفاء من أثر صدمته النفسية لحادث الاستاد، وضعفه أمام إظهار حقيقته، وخوفه من البكاء أو التعبير عن مشاعره، لظروف تربيته القاسية، وانهياره بعد لمسة من «حسناء»، والدكتورة «ماجدة» واختناقها من قيود الوظيفة الحكومية، وخوفها من ممارسة الطب، ومعاناتها من مظاهر التدين المزيفة في المجتمع، وعلاقتها الباردة بزوجها، وهروبها للسفر، لتتحرر من سجنها، وسيدة الأعمال «سهيلة» التي تحولت مشاعرها إلى وظيفة، تؤديها بإتقان، وخوفها من الحب، والعجز، وعدم قدرتها على الاستمتاع بحياتها رغم جمالها، ونجاحها، وثقتها بنفسها.
إنه بلا شك مستنقع الفقر الراكد القابع في العقول والنفوس، مثل القمامة المنتشرة الآن في كل طرقات المدن الكبيرة والصغيرة والقرى، ونحتار في القضاء عليها، ورغم اتفاق الجميع على حب الحياة وكره الغياب عنها، إلا أننى لا أبالغ حين أقول إن العديد منّا لديه الإصرار الصارم على كراهيتها، والهروب من مواجهتها.
أتصور أن كلا منّا يمكنه بسهولة، مشاهدة نفسه تفصيلًا أو جزءًا في ملامح شخصية أو أكثر، خلال العرض، والتي تكشف لنا بوضوح، أن البشر هم وحدهم القادرون على رسم مصائرهم بأيديهم، وليس الزمان أو المكان أو الظروف، إنما هو مدى ضعفهم أو صلابتهم في فهم واستيعاب تلك الظروف والتحديات، والتعامل معها. إنها دعوة مجانية تمامًا، إلى مصافحة الحياة، ونبذ مشاعر الخوف والعجز والإحباط، دعوة إلى الإرادة والقوة والتحدى، وكسر قيود المكرر والمعتاد والمألوف، دعوة إلى الإيمان بمعجزة الحب، وقدرته على الصمود والتجدد، فنحن لا ندرك غالبا أننا نظلم أنفسنا، ونظلم الآخرين، إلا بعد أن نستهلك كل سنوات عمرنا فيما لا قيمة ولا معنى له. عرض «الحكى» هو نتاج ورشة كتابة وحكى، لكُتّاب وكاتبات، هم أعضاء فرقة «الحكى»، التي تشرف عليها الكاتبة الروائية «سحر الموجى»- مخرجة العرض ومدربة الحكى - وهى تهدف إلى دعم التفكير النقدى في المجتمع المصرى عن طريق إنتاج مادة ثقافية، قادرة على أن تصل لأكبر عدد من المصريين، من خلال مؤسسة «دوم» الثقافية، غير الربحية. قدم «خطى العتبة» وسط حضور كثيف، ملأ مسرح «الجيزويت»- برمسيس - عن آخره، مصحوبا بموسيقى تصويرية، وإضاءة خافتة، ترسم الأجواء النفسية لأبطاله- كتابة وحكى- سحر الموجى، عفاف السيد، رانيا زهرة، كارول عقاد، سمر على، عمر سامح، عصام فايز، رشا نشأت. اتسم الأداء التمثيلى للجميع بالنضج والهدوء، والحكى بالتكثيف، كما ازداد إبداعًا وتألقًا وإبهارًا في محاولته الجادة من أجل علاج النفس البشرية، وانتشالها من سموم أفكارها وأحاسيسها الرديئة المتراكمة، ملتمسًا عالم الروح الأنقى والأعذب والأجمل. هي تجربة إبداعية مدهشة، تثبت احتياجنا الحرج إلى تعلم «فن الحكى»، كعلاج حقيقى، وكسلاح ناجز، وربما وحيد، لإنقاذ نفوسنا من الابتلاع في هذا العالم، حينما نحرر عوالمنا الداخلية من مشاعر وأفكار وانفعالات مكبوتة وأحزان وآلام وآمال، هكذا فقط يمكن أن نتغير، ونغير كل ما حولنا، فنحن يحاصرنا واقع، علينا أن نتعلم كيف نجيد قراءته، وقراءة أنفسنا.