الجمعة 19 أبريل 2024
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي
رئيس مجلسي الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي

آراء حرة

قراءة جديدة فى أوراق العباسيين (3)

تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق google news
ولأن أبا جعفر المنصور، ثانى الخلفاء العباسيين، والمؤسس الحقيقى للدولة العباسية،، قوى فلم يحترم إلا القوة، ولعل هذا ما يفسر إعجابه بهشام بن عبدالملك، ووصفه له بأنه (رجل بنى أمية)، ثم إعجابه الشديد بعبدالرحمن بن معاوية بن هشام، الخليفة الأموى فى الأندلس، وعلى الرغم من هزيمة جيشه على يديه فى أشبيلية، بل ربما يسبب هذه الهزيمة التى لم تردعه، ولم تمنعه من محاولة استمالته بالهدايا، ووصفه قائلاً: (.. اقتحم جزيرة شاسعة المحل، نائية المطمع، عصبية الجند، ضرب بين جندها بخصوصيته، وقمع ببعض قوة حيلته، واستمال قلوب رعيتها.. إن ذلك لهو الفتى الذى لا يكذب مادحه).
بل يقال إن المنصور هو الذى سمى عبدالرحمن بصقر قريش، ولما فشل فى استمالته بالتودد أظهر وجهًا آخر لأسلوبه السياسى، وهو الوجه الذى أظهره تشرشل فى الحرب العالمية الثانية عندما أعلن أنه مستعد للتحالف مع الشيطان لهزيمة النازية، وهو نفس ما فعل أبوجعفر، حين تحالف مع (شارلمان) ثم مع (ببين) ملكى الفرنجة، ضد عبدالرحمن الخليفة الأموى المسلم، وهو التحالف الذى فشل فى هزيمة عبدالرحمن، ونجح فى ذات الوقت فى إقرار القاعدة المنصورية:
افعل أى شيء.. اسلك أى سبيل.. تحالف مع أعدى الأعداء.. المهم أن تصل إلى غايتك.. وتنتصر على عدوك، وخلال ذلك كله انس الإسلام، وتغافل عن أحكام القرآن، وتجاهل السنة، وابتعد بقدر ما تستطيع عن سيرة الراشدين، وتذكر فقط أنك (سلطان الله فى أرضه)، (وصف المنصور لنفسه فى خطبة شهيرة بالمدينة)، (وظل الله الممدود بينه وبين خلقه)، (التعبير الأدبى الشائع عند وصف الخلفاء فى العصر العباسى الأول)، واستند فى حكمك إلى حق بنى العباس فى الخلافة، وليس إلى حق الرعية فى الاختيار.
ولعل هذا المنهج هو ما قاد العلويين إلى مناهضة المنصور، فما دام النسب هو الفيصل، فهم أقرب إلى الحكم، وأحق بالخلافة، وقد دار حوار طريف بين المنصور من ناحية، ومحمد العلوى المشهور باسم (النفس الزكية) وأخيه إبراهيم من ناحية أخرى، ومبعث الطرافة أن الحوار كله يدور حول إثبات أحقية الخلافة بالنسب، مع تجاهل كامل لما يسمى الشعب، أو ما كان يطلق عليه وقتها اسم الرعية، فمحمد (النفس الزكية) وأخوه إبراهيم، يريان أنهما من نسل على وفاطمة، وأنهما حفيدا الرسول، وأنهما بهذا ولهذا أحق، والمنصور يرى أن العم أقرب من ابن العم، وأنه بذاك ولذاك أحق، وأنا بعد استئذان القارئ أرى أنها مأساة أن أبايع حاكما لمجرد أنه من نسل على، أو أناصر حاكما آخر، لأنه من نسل العباس، وأتجاوز فأقول: إنه لو عاش للرسول من نسله ذكور، ما بايعت حفيدا من أحفاده لمجرد انتسابه إليه، فالنبوة لا تورث، والصلاح لا ينتقل بالضرورة للأبناء، ولا مانع أن يكون (نوح) نبيا، وأن يكون ابنه فى ذات الوقت (عمل غير صالح).
غير أن الطريف فى حوار المنصور والنفس الزكية، أنه انتقل إلى الغمز، فالنفس الزكية يرد على عرض المنصور بالأمان بغمزة موجعة حين يذكر (أى الأمانات تعطيني؟ أمان ابن هبيرة؟ أم أمان عمك عبدالله بن علي؟ أم أمان أبى مسلم؟)، فيرد عليه المنصور غامزا فى الحسن «جد النفس الزكية» قائلا: (ثم كان الحسن فباعها معاوية بخرق ودراهم، ولحق بالحجاز وأسلم شيعته بيد معاوية، ودفع الأمر إلى غير أهله).
والمنصور يشير إلى مبايعة الحسن لمعاوية أو بمعنى أدق إلى الصلح بينهما، ذلك الصلح الذى أثار مشكلة بسبب بطء (وسائل الاتصال) فى تلك الأيام، فقد أرسل الحسن إلى معاوية يصالحه على شروط مالية. وفى نفس الوقت كان معاوية قد أرسل إلى الحسن صحيفة بيضاء ختم أسفلها وترك للحسن أن يشترط فيها ما يشاء، ووصلت الرسالتان فى وقت واحد، وطمع الحسن فكتب فى صحيفة معاوية شروطا جديدة طلب فيها أضعاف ما طلب فى رسالته، وعندما التقيا تمسك معاوية بخطاب الحسن وتمسك الحسن بخطاب معاوية ثم تصالحا على خمسة ملايين هى أموال بيت مال الكوفة (تاريخ الأمم والملوك للطبرى، ج٤ ص١٢١ ـ ١٢٥).
ولسنا فى مجال تقييم فعل الحسن، وحسبنا أن نذكر أنه استراح وأراح، أراح المسلمين من القتال، وأراح عبدالله بن عباس (الذى ما إن علم بالذى يريد الحسن عليه السلام أن يأخذه لنفسه حتى كتب إلى معاوية يسأله الأمان ويشترط لنفسه على الأموال التى أصابها فشرط ذلك له معاوية).
وسوف يهنأ ابن عباس بما حصل عليه من مال البصرة حتى نهاية حياته، فقد قتل على وتنازل الحسن وسمح معاوية، وسوف يهنأ أيضا الحسن بمال الكوفة حتى حين، فسوف يتخلص منه معاوية بدس السم له حين يرشح يزيدا لخلافته، ونعود إلى المنصور، الذى لم يتحمل محاورة محمد طويلا، فقبض على أبيه وعمومته وكثير من أهله وحبسهم معذبين حتى الموت، وهاجم محمدا بالمدينة وقاتله حتى قتله، ثم هاجم أخاه إبراهيم فى البصرة وقاتله حتى قتله ولم يكن المنصور فى ذلك كله مدافعا إلا عن الملك، فقد (ذكر أن المنصور هيئت له عجة من مخ وسكر فاستطابها، فقال: أراد إبراهيم أن يحرمنى هذا وأشباهه) (مروج الذهب للمسعودى ج٣ ص٣٠٩).
والشاهد هنا أن أحد الطرفين كان يدافع عن (النسب)، وأن الطرف الآخر كان يدافع عن (العجة)، وأن المسلمين فى الفريقين كانوا يعتقدون أنهم يدافعون عن صحيح الإسلام، دليلنا على ذلك ما حفلت به خطب الفريقين من آيات وأحاديث ووعد بالجنان ووعيد بسقر، ولم يكن الأمر عسيرا بالنسبة لمحمد وإبراهيم فآيات الحكم بما أنزل الله موجودة وما أيسر أن ينتقل منها إلى الحديث عن شمائل الرسول، وفضائل على، ولم يكن الأمر عسيرا أيضا على المنصور، فما أكثر الأحاديث عن شق عصا الطاعة، ومفارقة الجماعة، وما أيسر الاستشهاد بآيات الإفساد فى الأرض، فقد روى عن المنصور أنه عندما تسلم كتاب انتصار جيشه على إبراهيم، تلا هذه الآية:
(وألقينا بينهم العداوة والبغضاء إلى يوم القيامة، كلما أوقدوا نارا للحرب أطفأها الله، ويسعون فى الأرض فسادا، والله لا يحب المفسدين). ثم صعد إلى المنبر وقال: السعيد من وعظ بغيره، اللهم لا تكلنا إلى خلقك فنضيع ولا إلى أنفسنا فنعجز، فلا تكلنا إلا إليك.
وهكذا أقنع أفراد جيش المنصور أنفسهم بأن الله نصر الحق بهم، وسيجزى الله الشاكرين، وأقنع من تبقوا من جيش محمد وإبراهيم أنفسهم بأنه اختبار من الله، وبلاء إلى حين، وسيجزى الله الصابرين، وانطلق كل فريق قانعا بما اعتقد أنه جزاؤه من عندالله، ولم تنقل لنا كتب التاريخ خلال ذلك كله موقفا مشهودا لفقيه، أو دفاعا طليا عن الحق من إمام من أئمة المسلمين، وما أكثرهم فى عهد المنصور، فقد عاصره أبو حنيفة، ومالك، والأوزاعى، وعمرو بن عبيد، وسفيان الثورى، وعباد بن كثير، وجعفر بن محمد الصادق، وغيرهم، وما كان تعذيب المنصور لأبى حنيفة وحبسه وجلده ودس السم له فى النهاية إلا لرفضه ولاية القضاء، وما كان جلد المنصور لمالك وهو عارى الجسد غير مستور العورة تشهيرا به إلا لذكره حديثا عن الرسول لم يعجبه، وكلا الموقفين لا يصلحان نموذجا للجهاد، أو مثالاً على مناوأة الحاكم إن حاد، أو دليلا على أن الحق يعرف بالرجال، وينصر بالرجال، وينبرى للدفاع عنه الرجال.
ولا بأس أن ننهى حديث المنصور، بحديث ابن المقفع الذى أرسل للمنصور كتابا صغير الحجم، عظيم القيمة سماه (رسالة الصحابة) نصح فيه الخليفة بحسن اختيار معاونيه، وحسن سياسة الرعية، وكان فى نصحه رفيقا كل الرفق، رقيقا غاية الرقة، ولعله كان ينتظر من المنصور تقديرا أدبيا وماديا يليق بجهده، ولعله لم يتصور أن مجرد إسداء النصح للمنصور جريمة، وأن غاية دور الأديب فى رأى المنصور أن يمدح، ومنتهى دور المفكر أن يؤيد، وأن عقاب من يتجاوز دوره كما فعل ابن المقفع، أن يفعل به كما فعل بابن المقفع، الذى قطعت أطرافه قطعة قطعة، وشويت على النار أمام عينيه، وأطعم إياها مجبرا، قطعة قطعة، حتى أكرمه الله بالموت فى النهاية ولعله تساءل وهو يمضغ جسده بأمر أمير المؤمنين، أى أمير وأى مؤمنين، ولعله أدرك ساعتها ما نتمنى أن يدركه من يتنادون بالخلافة، ويتغنون بالشورى، ويهاجمون الحكام (العلمانيين) ويتصورون فى الدولة الدينية ملاذا، وفى الحكم باسم الإسلام موئلا ورحمة، وفى التطبيق الفورى للشريعة وحدها عدلا واستقامة، وفى الديمقراطية جورا وحكما بالهوى، ولعلنا نذكرهم أن المنصور وإن دخل التاريخ من باب الجبروت إلا أنه تركه من باب رجال الدولة العظماء، وهو إن جار فبفتوى البعض من الفقهاء، وخوف البعض وصمت البعض الآخر، وهو إن قسا فبهدف بناء هيبة الدولة، وأركان الحكم بمقاييس عصره، وهو إن أسال الدماء أنهارا، فقد بنى بغداد والرصافة وحمى ثغور الدولة الإسلامية، وأعاد التماسك إلى بنيانها، وكانت حكمته البليغة نصب عينيه:
«إذا مد عدوك إليك يده فاقطعها إن أمكنك، وإلا فقبلها».
تعيد «البوابة» نشر مقالات للمفكر الراحل فرج فودة علها تكون نفعاً لنا فى مثل هذه الأيام.