الجمعة 19 أبريل 2024
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي
رئيس مجلسي الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي

آراء حرة

قراءة جديدة في أوراق العباسيين "2"

تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق google news
التساؤل عن كنه الخلافة التي يدّعون أنها إسلامية، وينادون بعودتها من جديد، هل هي إسلامية حقًا فنزنها بمقياس الإسلام، فتخرج منه، وتنبو عنه، وينتهى الحوار حولها إلى موجز مفيد، فحواه أنهم ادعوا أنها إسلامية فأثبتنا أنها لم تكن، وكفى الله المؤمنين شر (الخلافة)، أم أنها كانت حكمًا استبداديًا يتستر برداء الدين، فنثبت عليهم الحجة، ونلقمهم حجرًا علمانيًا حين نوضح لهم الفرق بين استبداد الحكم الدينى في العصور الوسطى، عصور الاستبداد والتعذيب والجبروت، وعلمانية العصر الحديث، عصر الديمقراطية وحقوق الإنسان واحترام الآدمية.
أحسب أن الأمر لا يخرج عن ادعاء من الادعاءين، وأحسب أيضًا أن الإجابة واضحة في الحالين، غير أن ذلك كله يطرح سؤالًا أكثر وضوحًا، وهو لوضوحه وبساطته لا يحتاج من القارئ إلى جهد أو اجتهاد لإجابته:
هل صحيح أن العلمانية همّ غرب لا همّ شرق، وأنها مبررة في الغرب باستبداد الحكم بالدين أو باسم الدين، بينما لم نعرف نحن في الشرق نظيرًا لذلك، أو مثالًا له؟، أحسب أنه لو كان مبرر العلمانية في الغرب هو استبداد الحكم في الكنيسة، لكان مبررها في الشرق هو استبداد الحكم في ظل (الخليفة)، سلطان الله في أرضه، القاتل لمن يشاء، المانح للعطاء، والمانح للبلاء.
وإذا كان السفاح قد وصف نفسه على المنبر بأنه السفاح المبيح، فإن رياح بن عثمان والى الخليفة المنصور على المدينة قد وصف نفسه على منبر الرسول بما هو أنكى حيث قال:
(يا أهل المدينة، أنا الأفعى ابن الأفعى) (اليعقوبى ج٢ص٢٥١).
وإذا تباهى الخلفاء بأنهم سفاحون، وتباهى الولاة بأنهم أولاد الأفاعى، أيبقى من يدعى أن الاستبداد باسم الدين همّ غرب، وأن العلمانية كخلاص منه فكر غربى وافد لا علاقة له بواقع الشرق وهمومه؟
أحسب أن البعض الآن يردد بينه وبين نفسه: ها هو يصطاد في الماء العكر، ويتوقف كثيرًا عند السفاح حتى ينال مأربه في الطعن في الخلافة الإسلامية، لكن ردنا عليه يسير، فليس هناك علاقة بين السفاح وبين الإسلام أو الحكم به، فليقل عنه ما يشاء، وليطعن فيه كما يشاء، وليحاور وليداور، فليس في هذا كله غناء، فالمسافة بين حكم السفاح والحكم بالإسلام كالمسافة بين الأرض، سابع أرض، والسماء، سابع سماء..
ولحسن الحظ حظى وحظ القارئ أن الرد على ذلك من أيسر ما يكون، فلولا الإسلام، المظهر لا الجوهر، والرداء لا المضمون، ما فعل السفاح ما فعل، لا هو ولا سابقوه، ولا لاحقوه، فأى ولاء كان يربط المصرى مثلًا بالسفاح في الأنبار، أليس هو الولاء لخليفة المسلمين، وللحاكم باسم الإسلام، وأى دافع لهذا الولاء، أليس الدافع هو الارتباط بالإسلام، وجيوش الأحاديث النبوية التي نسبها الوضاعون للرسول حول خلافة بنى العباس، واجتهادات الفقهاء عن طاعة الخليفة ولو كان غاشمًا، وفسق الخارج عن الطاعة، وكفر المفارق للجماعة؟ وأى مدخل ساقه السفاح في خطاب توليته وتناقله الرواة، وردده الوعاظ، أليس هو مدخل العدل والتقى والعقيدة؟ أليس هو القائل على المنبر (تاريخ الأمم والملوك للطبرى ج١٦ ص٨٢ ٨٤):
(الحمد لله الذي اصطفى الإسلام وشرفه وعظمه واختاره لنا وأيده بنا وجعلنا أهله وكهفه وحصنه والقوام به والذابين عنه والناصرين له وألزمنا كلمة التقوى وجعلنا أحق بها وأهلها، وخصنا برحم رسول الله صلى الله عليه وسلم وقرابته، إنى لأرجو أن لا يأتيكم الجور من حيث أتاكم الخير، ولا الفساد من حيث جاءكم الصلاح وما توفيقنا أهل البيت إلا بالله)؟
ولأنه كان متوعكًا فقد أكمل داود بن على الخطبة فقال:
(لكم ذمة الله تبارك وتعالى، وذمة رسوله صلى الله عليه وآله وسلم، وذمة العباس رحمه الله، أن نحكم فيكم بما انزل الله، ونعمل فيكم بكتاب الله ونسير في العامة منكم والخاصة بسيرة رسول الله صلى الله عليه وسلم، الزموا طاعتنا ولا تخدعوا عن أنفسكم فإن الأمر أمركم، فإن لكل أهل بيت مصرًا وإنكم مصرنا، إلا وأنه ما صعد منبركم هذا (يقصد منبر الكوفة) خليفة بعد رسول الله إلا أمير المؤمنين على وأمير المؤمنين عبدالله بن محمد (وأشار بيده إلى أبى العباس) فاعلموا أن هذا الأمر فينا ليس بخارج منا حتى نسلمه إلى عيسى بن مريم).
الحكم بما انزل الله إذن كان وسيلته إلى قلوب الناس وبيعتهم وولائهم..
السير في العامة والخاصة بسيرة رسول الله كان ما عاهد عليه الناس وما بايعه الناس عليه.
الحديث المختلق عن خلافة العباسيين حتى يسلموها إلى عيسى بن مريم كان السبيل إلى استسلام الرعية لقدرها، والانشغال عن ظلم الولاة، بصدق النبوءة المدعاة.
هكذا بدأ أمر العباسيين، وهكذا يبدأ أي أمر للحكم الدينى وتحت نفس الدعاوى البراقة، التي نسمعها كما سمعها الكوفيون بالأمس.. الحكم بما انزل الله.. السير بسيرة رسول الله.. تطبيق شرع الله.. العدل.. البركة.. وهكذا كان ينتهى الأمر دائمًا.. كما رأينا في أول عهد السفاح ثم كما سنرى بعد عهد السفاح، ذلك الذي لا ينتهى الحديث عنه، إلا بذكر سنة استنها، ثم أصبحت قاعدة لمن تلاه من خلفاء بنى العباس، ونقصد بها عدم احترام العهود والمواثيق، والفتك بالأنصار قبل المناهضين.
وقد فعل السفاح ذلك في واقعتين شهيرتين الأولى حين أعطى ابن هبيرة قائد جيوش مروان بن محمد آخر الخلفاء الأمويين، كتابًا يحمل إمضاءه ويتعهد له بالأمان، ثم قتله بعد أيام من استسلامه، والثانية حين قتل وزيره أبا سلمة الخلال أحد مؤسسى الدولة العباسية في الكوفة، وتعمد أن يتم ذلك على يد أبى مسلم الخراسانى، المؤسس الأول للدولة، حيث لا يعرف تاريخ الدولة العباسية في عهد السفاح فضلًا إلا لرجلين، أولهما أبو مسلم الذي أسس الدولة في خراسان وسلم الخلافة إلى السفاح، وثانيهما عبدالله بن على عم السفاح وقائد جيوش العباسيين في موقعة الزاب التي انتصر فيها على الأمويين انتصارًا نهائيًا، ويقال إن السفاح كان يسعى لقتل الإثنين، وهو ما لا نجد دليلًا عليه في كتب التاريخ.
غير أن أبا جعفر المنصور، ثانى الخلفاء العباسيين، والمؤسس الحقيقى للدولة العباسية، والذي يحتل فيها موقعًا مناظرًا لموقع معاوية في دولة الأمويين، قام بذلك الواجب خير قيام، فسلط أولًا أبا مسلم الخراسانى لقتل عبدالله بن على، ثم تولى هو بنفسه قتل أبى مسلم، ولم يشفع له صياح أبى مسلم: استبقنى يا أمير المؤمنين لعدوك، بل رد عليه: وأى عدو لى أعدى منك؟
وليس للقارئ أن يتعجب حين يعلم أن أبا مسلم لم يفعل للسفاح ثم للمنصور إلا (كل الخير)، وأنه كان صاحب الفضل الأول عليهما وعلى دولتهما، لكن ذلك بالتحديد كان سبب قتل المنصور له، فقد دخل عليه ولى عهده (عيسى بن موسى) فوجد أبا مسلم قتيلًا، (فقال: قتلته؟ قال: نعم، قال: إنا لله وإنا إليه راجعون، بعد بلائه وأمانته؟ فقال المنصور: خلع الله قلبك! والله ليس لك على وجه الأرض عدو أعدى منه، وهل كان لكم ملك في حياته؟).
هذا نموذج مثالى لما عرف باسم الميكيافيلية، نسبة إلى (ميكيافيلي)، والتي توجز في تبرير الوسيلة بالغاية، وتفصل في تطبيق ذلك على شئون الحكم وسيرة الحكام، وتبدو جلية على يد المنصور، الذي وطئ بأقدامه أعناق الرجال، وتفرد بأسلوبه المميز في الحكم، فهو يبدأ أولًا بالتخلص من أصحاب الفضل عليه ثم يتحول إلى المعارضين، وهو لا يعرف إلا القتل وسيلة للقضاء على معارضيه، ولا يعرف للعواطف سبيلًا، ولا تعرف العواطف إليه طريقًا.
تعيد «البوابة» نشر مقالات للمفكر الراحل فرج فودة علها تكون نفعًا لنا في مثل هذه الأيام.