الأربعاء 24 أبريل 2024
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي
رئيس مجلسي الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي

آراء حرة

في انتظار حلول سياسية

تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق google news
لا شك أن الدولة القانونية تشكل الركيزة الأساسية الأولى فى بناء الدولة الحديثة، بما توفره من قيم إنسانية رفيعة تتفق ومبادئ الحكم الرشيد، وتتبنى كل التطلعات الشعبية التى تُعلى من شأنها الثورات الشعبية، وهو الأمر الذى نشأ فى المجتمع المصرى فى أعقاب ثورة الخامس والعشرين من يناير المجيدة، فمالت بها الجماعة الإخوانية ناحية مصالحها المضادة لمصالح الوطن، فكانت الموجة الثورية المدهشة فى الثلاثين من يونيو، تعبيرًا عن تمسك الشعب بمكتسبات ثورة يناير، وتصحيح المسار باتجاه المصلحة الوطنية، لا مصلحة فريق أو تيار بعينه، وهو أيضًا ما يمثل جوهر الدولة القانونية حيث المساواة والعدالة الاجتماعية فى ظل سيادة القانون.
غير أن الدولة القانونية لا تجد تطبيقها الصادق والأمين بأن تدار الدولة بإجراءات جنائية، ولا يعنى الأمر كذلك أن تمر كل الملفات الوطنية عبر ساحات القضاء، ففى ذلك إهدار لقيم الدولة القانونية ذاتها، إذ ندمجها قسرًا بالحياة السياسية، بما تموج به من مزايدات ومساومات، وحسابات مصالح معقدة، ورؤى وأفكار متباينة من شأنها تغليب جهة على أخرى داخل أوساط الرأى العام، بينما الدولة القانونية محلها قواعد عامة تقف على الحياد أمام كل مخرجات ومكونات العملية السياسية.
والواقع أن غياب الرؤى السياسية لم يعد أمرًا يمكن تجاهل تبعاته فى كثير من القضايا الوطنية التى تشغل الرأى العام، وتبدد جهودنا فى بناء جبهة داخلية متماسكة، قادرة على مجابهة ما يواجهنا من تحديات ومخاطر، واقتناص الفرص من رحم الأزمات التى يمر بها الوطن.
تأسيسًا على ذلك، يمكن القول إن كثيرًا من أزماتنا ما هى إلا نتاج غياب الرؤى السياسية، وتدنى مستوى المعالجات المستندة غالبًا إلى المغالبة بالسلطة، والتعنت فى استخدام الصلاحيات والاختصاصات، دون أدنى نظر إلى ما تفرضه اللحظة التاريخية الراهنة من سعى حثيث نحو استيعاب الرأى الآخر، والاجتهاد فى تقديم سياسات قبل القرارات!
على خلفية ذلك، اندلعت أزمات شغلت الرأى العام، وطعنت بقوة فى النسيج الوطنى، غير عابئة بالتبعات السلبية الناشئة على جهودنا التنموية من جهة، وعلى التأكيد من جهة أخرى على قدرتنا على رسم مسار وطنى باتجاه المكتسبات الثورية التى استندت إليها ثورة الخامس والعشرين من يناير وموجتها التصحيحية فى الثلاثين من يونيو.
فليس إلا كذلك كانت أزمة نقابة الصحفيين مع وزارة الداخلية، إذ تباعد الكل عن مسئولياته السياسية، وكان القرار أن نلقى بالكرة إلى ساحة القضاء، وكأن بلبلة مجتمعية لم تكن، وكأن شرخًا لم يحدث بالفعل فى العلاقات بين مؤسسات الدولة، الرسمية وغير الرسمية، ويحتاج إلى رؤى سياسية مُبدعة قادرة على السيطرة بحزم على شهوة القرار. أزمة استلام محصول القمح من الفلاحين، صورة أخرى من أزماتنا الناشئة عن ضعف الرؤى السياسية، وربما غيابها تمامًا، إذ كانت الحكومة قد أعلنت أن الشون الترابية لم تعد صالحة لما تطرحه من تطور للمجتمع المصري، وبالتالى وعدت الفلاحين بشون حديثة تحافظ على المحصول الذى نفقد منه ما بين ١٥٪ إلى ٣٠٪ نتيجة التخزين فى الشون الترابية، وبالفعل حل موعد حصاد القمح، ولم تكن الشون الحديثة جاهزة على نحو ما وعدت الحكومة. والأصل أن شهوة القرار كانت طاغية، إذ صدر القرار بعدم الاستلام فى الشون الترابية، رغم نقص الشون الحديثة، فكانت الأزمة طبيعية جدًا، وحار الفلاح أين يلقى بمحصوله، حتى راح البعض منهم يبيعه مباشرة إلى التجار بأى ثمن، حتى انتفضت الحكومة، وأعلنت عن قرار جديد يسمح بالتوريد فى الشون الترابية! وبالفعل تيسرت الأمور فى تسليم واستلام محصول القمح، لكن على حساب إهدار جزء كبير من المحصول، ثم لا شيء، لا نسمع عن مساءلة برلمانية جادة فى هذا الشأن، ولا مراجعة سياسية شهدناها، ولم تبرر الحكومة إخفاقها فى تنفيذ قرارها الأول بعدم التخزين فى الشون الترابية، ولا تقصيرها فى تشييد الشون الحديثة. ولم تفصح كذلك عن تكلفة قرارها الثانى حين سمحت باستخدام الشون الترابية، وعلى هذا النحو كانت الأزمة ليست أكثر من شهوة القرار، قرار «المنع» قبل إيجاد البدائل، وقرار «السماح» دون النظر إلى الفاقد الكبير من المحصول!
ورغم أن التعليم والصحة يشكلان معًا جوهر التنمية البشرية، وفق ما أوصت به التجارب الدولية الناجحة. إلا أن الأداء الحكومى فيما يتعلق بالتعليم والصحة، يشير بوضوح إلى تراجع معيب عن كل المعايير الدولية المقبولة، إذ تبدو أزمتنا التنموية بعيدة عن أى رؤى سياسية جادة وموضوعية. فما زال الغش وتسريب الامتحانات معضلة غير قابلة للحل، وما هى إلا نتاج طبيعى لكل السلبيات المتعلقة بالعملية التعليمية ككل. والحال نفسه وليس أفضل، تجده فى مجال الصحة بشكل عام، من ترد واضح ومستمر لأحوال المستشفيات، إلى فوضى فى صناعة وتسعير الدواء، إلى نتاج طبيعى آخر يتمثل فى موقعنا المتقدم على قائمة ذيوع الأمراض عالميًا. وفى المحصلة التعليمية والصحية إنتاج قومى ضعيف لا يمكن أن ينهض بالمجتمع إلى حدود ما نطمح إليه من تنمية مستدامة. وما زلنا فى حضرة شهوة القرار الحكومى، ولعل النموذج الأوفر حظًا من الشهرة نجده فى أزمة تيران وصنافير، تلك الأزمة الكاشفة بجلاء عن حجم معاناتنا جراء تفوق شهوة القرار على ما عداها من رؤى سياسية. إذ كان الشعب قد فوجئ ذات يوم قريب بأن جزيرتى تيران وصنافير سعوديتان! وأن الحكومة وقعت اتفاقية لإعادتهما إلى أصحابهما. ثم فوجئت الحكومة برد فعل الشعب على مباغتته على هذا النحو السافر، بضغط عنيف من شهوة القرار أزال كل أثر للمكتسبات الثورية التى أعلت من قيمة الرأى العام، ووضعته فى إطاره الصحيح كأحد دوائر صناعة القرار السياسى. وانتهى الحال إلى أن باتت تيران وصنافير أزمة تعبر عن انسداد الأفق السياسى بين الحكومة والشعب، فكان أن أصبحت الأزمة رقمًا، بل عدة أرقام لقضايا مرفوعة أمام القضاء المصرى الذى بات يئن تحت وطأة غياب الرؤى السياسية. 
هذا ما جنيناه، وغيره الكثير، جراء اعتمادنا منهج الحكومات التنفيذية، حتى فى وقت يلى ثورة شعبية هائلة من شأنها وضع القوة السياسية للدولة على محك اختبارات صعبة، إذ تبدو القوة السياسية للدولة رهن ما تعتنقه من قيم سياسية، وما تتبناه من سياسات عامة رشيدة، وما تحققه من تعاون دولى أساسه منظومة القيم الإنسانية العالمية.
والواقع أن لومًا نقدمه لرئيس الحكومة المهندس شريف إسماعيل، ليس هو المقصود بالضبط، إذ لم يكن للرجل تاريخ سياسي على الإطلاق، ولا لوزرائه بشكل عام، وإنما هم موظفون بدرجة رئيس حكومة ووزراء، ومن ثم لا غرابة أن تسيطر شهوة القرار على أداء حكومة تنفيذية، موظفة يعني! لكن المشكلة أنها، أى الحكومة، تأتى فى لحظة تاريخية منوط بالدولة فيها أن تعبر عن رؤاها السياسية فى قيادة مجتمع خارج لتوه من ثورة عظيمة، صنع فى أعقابها موجة تصحيحية مدهشة، إذ لا تعدو الثورات إلا أن تكون عملًا سياسيًا فى المقام الأول.