الثلاثاء 23 أبريل 2024
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي
رئيس مجلسي الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي

آراء حرة

المعارك الأدبية

تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق google news
ذكَّرتنى صحفية شابة بالمعارك الأدبية حين سألتنى عن رأيى فيها. سكت قليلًا ثم ضحكت. انتبهت إلى أنه بالفعل ليس لدينا معارك أدبية. حدثتها بإيجاز شديد وهنا أتوسع قليلا. الأصل فى المعارك الأدبية هو الخلاف فى النظر إلى العالم أو فى مناهج البحث والتفكير فى العالم مكانا وزمانا. والنظر إلى العالم عند المبدعين يكون بالإبداع ويكون رائده التجديد. من هنا جاءت المدارس الأدبية وكانت الخلافات بينها. ففى الفن التشكيلى مثلا كانت المدرسة التأثيرية فى القرن التاسع عشر ترى الأشياء والبشر بشكل مختلف عن رؤية رسامى عصر النهضة وما بعدها. رأت الناس والأشياء تحت ضوء الشمس غير منفصلين عن المكان. وبعدها كان ما بعد التأثيرية ثم التعبيرية التى أضافت إلى الإنسان والأشياء حالة من التشاؤم ومدارس أخرى على رأسها التكعيبية والسيريالية. فى الأدب الأمر نفسه. من المدرسة الكلاسيكية فى المسرح إلى المدرسة الرومانتيكية فى المسرح أيضا ثم المسرح الملحمى والرواية الرومانتيكية التى رأت الإنسان الفرد أساس الوجود وتطلعاته وطموحاته متمردة حتى على المدرسة الواقعية التى كانت تنقل الأشياء كما هى، ثم المدرسة الطبيعية ومدرسة تيار الشعور والواقعية الاشتراكية ثم الواقعية الجديدة ثم الحداثة وما بعدها. لكل مدرسة رؤية للعالم ومعارك فكرية تروِّج لرؤيتها وأعمالها. الأمر نفسه حدث فى مصر. فالمعارك الأدبية كانت فى أواخر القرن التاسع عشر من أجل شعر حقيقى غير الشعر المتدنى الذى ملأ عصر المماليك والعثمانيين فى صوره الشعرية وموضوعاته. شعر ركيك يعنى. ثم كانت مدرسة الديوان للعقاد والمازنى وعبدالرحمن شكرى فى مواجهة المدرسة الكلاسيكية لشوقى وحافظ التى كانت وقبلهما البارودى قد أنقذت الشعر من تدنيه لكنها التزمت بالطريقة القديمة للشعر، حيث يمكن أن يكون فى القصيدة بداية من الغزل ثم المديح والمهم هو وحدة البيت لا وحدة القصيدة. جاءت مدرسة الديوان لتنادى بوحدة القصيدة وكتب العقاد والمازنى وشكرى ما كتبوه من نقد لمن قبلهم. وبعدهم فى الأربعينيات بدأت حركة الشعر الحر وكانت مختلفة. فيها وحدة القصيدة لكن لا تلتزم بالوزن ولا بالقافية التى جعلت فى الشعر كثيرًا من التكلف. كان من روادها المبكرين على أحمد باكثير ثم نازك الملائكة ثم فى الخمسينيات صلاح عبدالصبور وأحمد حجازى فى مصر. وشهدت السبعينيات جيلا يرى فى هذا الشعر أيضا عيوبا أساسها الشفاهية والإلقاء ومن ثم ذهب الشعر إلى التأمل أكثر ثم ظهرت قصيدة النثر وفى كل ذلك كانت الدراسات والمقالات تتابع الإنتاج وتروِّج أو تبشر به. الأمر نفسه فى القصة والرواية. معارك من نوع الفن للفن والفن للمجتمع وهكذا حتى انتهى الحديث الفكرى مع آخر السبعينيات تقريبا ولم تعد لدنيا معارك أدبية فكرية رغم كثرة الإنتاج وتنوعه. صارت لدينا معارك شحصية. ففى أى مقال لا يسلم الخصم من الاتهام إما بأنه من رجال حظيرة وزارة الثقافة كما يقال أو أمنجى! ورغم صحة ذلك كثيرا لكنها ليست معارك فكرية. وإذا كانت المعارك أقل حدة فيقال إن هذا تلميذ فلان الفاسد مثلًا وفى كل المعارك لا تجد حديثًا فنيًا إلا ما ندر جدًا. هذا كله لم يأتِ من فراغ. فهناك بالفعل كتاب موالون للسلطة وأذناب للأمن والسلطة وليس فى الثقافة فقط بل فى الإعلام بكل أنواعه. لكن هؤلاء لا يستحقون أى معركة فكرية معهم لأن إنتاجهم فى الغالب ضحل. ثم ما معنى معركة مع عقل ضحل. هذه الظاهرة السبب فيها ليس ضحالة العقل فقط لكن مركزية الدولة. معاركنا الحقيقية كانت فى الدولة الليبرالية أيام الملكية واستمرت بالدفع الذاتى فى الخمسينيات والستينيات والسبعينيات ثم بدأت تتهاوى وتختفى، وبعد ذلك صارت المعارك تقريبًا شخصية ولا تزال للأسف لأنه عبر هذه السنين منذ ثورة يوليو ١٩٥٢ ازداد تغول الدولة بين الكتاب والصحفيين وصار طريقها هو الطريق الأسهل فتدنت المعارك إلى هذا المستوى الهابط. كيف تعود إلينا معاركنا الأدبية الحقيقية. معركة كبرى أساسها تقليص نفوذ الدولة فى الثقافة والإعلام وإطلاق حرية المجتمع المدنى، لكن هذا حديث يشبه الأحلام التى لا تتحقق.