الجمعة 26 أبريل 2024
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي
رئيس مجلسي الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي

آراء حرة

قراءة جديدة فى أوراق الأمويين (3)

تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق google news
ننتقل من حديث يزيد إلى حديث ولده، الوليد بن يزيد الذى أوصى له يزيد بالخلافة بعد أخيه هشام، ووفّى هشام بعهده لأخيه، رغم ما كان يسمعه ويأتيه، من أخبار فسق الوليد ومجونه، وهى أخبار تأكدت بعد ولايته، حين فاق الوليد أباه بل فاق ما عداه، وفعل ما لم يفعله أحد فى الأولين والآخرين، حيث يروى عنه أنه قد اشتهر بالمجون وبالشراب وباللواط، وصدق أو لا تصدق، برشق المصحف بالسهام، وكان إلى جانب ذلك شاعرًا مطبوعًا، سهل العبارة، يحسن اختيار الألفاظ ورويّه.
وقد شاء الله أن يروقه هذه الموهبة حتى يخلد لنا آثاره شعرًا يتناقله الرواة، ويتبعونه بالعياذ بالله، وبلا حول ولا قوة إلا بالله، وربما بشهادة أن لا إله إلا الله، ومن حسن حظ الوليد، وسوء حظ القارئ أن كثيرًا من شعره وبعضًا من قصصه، لا نستطيع روايته لوقاحة ألفاظه، وشذوذ أفعاله، لكن لا بأس أن نبدأ حديث الوليد بالمدافعين عنه:
فقد (قال الذهبي: لم يصح عن الوليد كفر ولا زندقة، بل اشتهر بالخمر والتلوط، فخرجوا عليه لذلك، وذُكر الوليد مرة عند المهتدى فقال رجل: كان زنديقًا، فقال المهتدي: مه، خلافة الله عنده أجل من أن يجعلها فى زنديق).
هذا حديث المدافعين عن الوليد، المنكرين أن يتهم بالكفر، أو أن يوصف بالزندقة، وهم فى دفاعهم يسوقون حججًا هشة، فمن قائل إنه لم يتجاوز التلوط أو شرب الخمر، وكأن ذلك هين ويسير، ومن قائل إن الله أرحم من أن يجعل خلافته فى زنديق، بينما نرى أن الله قد رحمنا بخلافة الزنادقة، من أمثال الوليد، حتى يعطى أمثالنا حجة نفحم بها المزايدين، المدعين أن الدولة لا تنفصل عن الدين، وأنهما معًا حبل الإسلام المتين، بينما حقيقة الأمر أن الإسلام فى أعلى عليين، وأنه لا يضار إلا بالمسلمين، وعلى رأسهم الحكام باسم الإسلام، وأنه لا ضمان للمحكومين إن جار الحكام وأفسدوا، فبيعتهم مؤبدة، والشورى – إن وجدت – غير مُلزِمة، أو إن شئنا الدقة مقيدة.
واقرأ معى ما فعل الوليد حين (قرأ ذات يوم «واستفتحوا وخاب كل جبار عنيد، من ورائه جهنم ويسقى من ماء صديد»، فدعا بالمصحف فنصبه غرضًا للنشاب (السهام) وأقبل يرميه وهو يقول:
أتتوعد كل جبارٍ عنيدٍ؟ فها أنا ذاك جبار عنيدُ
إذا ما جئت ربك يوم حشرٍ فقل يارب خرقنى الوليدُ
وذكر محمد بن يزيد المبرد (النحوي) أن الوليد ألحد فى شعر له ذكر فيه النبى وأن الوحى لم يأته عن ربه، ومن ذلك الشعر:
تلاعب بالخلافة هاشمىٌ بلا وحىٍ أتاه ولا كتابِ
فقل لله يمنعنى طعامى وقل لله يمنعنى شرابي
ولعل القارئ بعد قراءة ما سبق لا يذهل كما ذهلنا، ولا ينزعج كما حدث لنا، ونحن نذكر له أن الوليد حاول نصب قبة فوق الكعبة ليشرب فيها عام حجه هو ورفاقه، وأن حاشيته نجحت فى إقناعه ألا يفعل بعد لأىٍ، وأنه فى (تلوطه) راود أخاه عن نفسه، فالواضح من سيرته أنه أطلق لغرائزه العنان، حتى غلبت شهوة الغناء والشراب على الخاصة والعامة فى أيامه كما يذكر المسعودى، وتألق نجوم الغناء فى عصره، فكان منهم ابن سريج ومعبد والغريض وابن عائشة وابن محرز وطويس ودحمان، ولعله أدرك أنه تجاوز الحد، فلم يعد يعنيه أن يضيف إلى ذنوبه ذنبًا، أو إلى سيرته مثلبًا، شأنه فى ذلك شأن ضعاف الإيمان، حين يقنطون من رحمة الله، فيضاعفون من معاصيهم، ونحن فى هذا لا نلتمس له عذرًا، وإنما نعبر عن رأيه هو فى نفسه، حين أطلقه شعرًا فقال:
اسقنى يا يزيد بالقرقارة قد طربنا وحنت الزمارة
اسقنى اسقنى، فإن ذنوبى قد أحاطت فما لها كفارة
وبالفعل، فقد أحاطت به الذنوب، وتألب عليه الصالحون، وانتهى الأمر بخروج ابن عمه يزيد بن الوليد عليه، وقتله، بعد خلافة قصيرة استمرت عامًا وثلاثة أشهر وشاء القدر أن تكون خلافة يزيد أقصر، فلا تستمر إلا خمسة شهور يموت بعدها ليتولاها بعده شقيقه إبراهيم لمدة سبعين يومًا فقط ثم يعزل على يد مروان بن محمد، انتقامًا لمصرع الوليد بن يزيد، ثم ينتهى عصر الدولة الأموية بمصرع مروان على يدى العباسيين، بعد خلافة استمرت حوالى خمس سنوات.
ونتوقف قليلا قبل أن ننتقل إلى خلافة العباسيين، مستخلصين نتيجتين نوجزهما فيما يلي:
النتيجة الأولى:
أننا نشهد فى الدولة الأموية عهدًا مختلفًا كل الاختلاف عن عهد الراشدين، أضاف إلى فتوحات الإسلام الكثير، حتى امتدت الدولة الإسلامية من الهند شرقًا إلى الأندلس غربًا، وأضاف إلى سلطة الدولة وهيبتها وتماسكها الكثير، حيث لم يخرج فيها أحد من الأمويين على آخر، إلا فى نهاية الدولة حين خرج يزيد على الوليد، ثم خرج مروان على يزيد فكان ذلك نذيرًا بالنهاية، بينما حفل تاريخ العباسيين بكثير من الخروج والانقسام داخل الأسرة الحاكمة حتى قتل الابن أباه، والأب ابنه، وشاع خلع الخلفاء وسمل أعينهم، وقتلهم بسحق مذاكيرهم، وغير ذلك من الأحداث على مدى الخمسمائة عام الأخيرة فى حكم العباسيين.
وعلى حين يبدو أبو جعفر المنصور، والمأمون، رجال دولة متفردين فى تاريخ الدولة العباسية، لا يناظرهما أحد، ولا يطاولهما مطاول، نرى أن الدولة الأموية على قصر عمرها قد حفلت برجال الدولة العظام، وعلى رأسهم معاوية، رجل الدولة الأول فى تاريخ الدولة الإسلامية كلها.
النتيجة الثانية:
أن الشعر والأدب وفن العمارة والغناء، بل أكثر من ذلك مذاهب الفقه واجتهادات الفقهاء، قد بدأت فى الظهور والتألق مع نهاية الدولة الأموية، ومع انحسار القيود (الشكلية) للدولة الدينية ووصلت للغاية فى العصر العباسى الأول.
يكاد القارئ يلاحظ علاقة طردية بين دنيوية الدولة وتألق الفكر والأدب والعلوم والفنون والفقه، فحينما تزداد هذه يتألق أولئك، وعلى العكس من ذلك يضمحل كل شيء مع ازدياد سطوة الدين فى الدولة الدينية إلا العبادة وقصص الزهاد وأقوال الصالحين.
ولا أحسب أن ما أذكره هنا استنتاج بقدر ما هو حقيقة بسيطة وواضحة، وقد مضى عهد الراشدين، وخلدت لنا كتب التاريخ سكناته وأحداثه، فلم تسمع فيه قصيدة لافتة، أو فنا يطرب أو يهز الوجدان أو يبقى للأجيال، ذلك لأن الفن حرية، والحرية لا تتجزأ، والفنان لا يتألق إلا إذا أحس بفكره طليقًا، وبوجدانه منطلقًا، وبوجدان الآخرين مرحبًا، وبأذهانهم سعيدة بإبداعاته، مستعدة أن تغفر له شطحاته، مقبلة على الحياة لا على الموت، متفتحة للنغم لا للوعيد.
ولا أحسب أن ذلك كله جزء من طبيعة الدولة الدينية، بل هو متنافر معها كل التنافر، متناقض مع قواعدها، أشد التناقض، ولعل إحدى مشاكل الداعين للدولة الدينية أنهم يدركون أنها تحجر على كل إبداع أو تفتح أو إجهاد للذهن أو اجتهاد للعقل، وأن كل ما يعيشه الناس ويتقبلونه تقبلًا حسنًا، لا يمكن قبوله بمقاييس الدولة الدينية بحال، فالأغانى مرفوضة، والموسيقى مكروهة عدا الضرب على الدفوف، والمغنيات فاجرات نامصات متنمصات، والمتغنون بغير الذكر ومدح الرسول فاسقون يلهون المسلمين عن ذكر الله ويدعونهم إلى الفاحشة، وممارسة المرأة للرياضة فتنة وإثارة للفتن، واختلاطها بالرجال جهر بالفسق، والتمثيل مرفوض لأنه كذب، ولأن هزله جد وجده هزل، ورسم الصور للأحياء حرام، وإقامة التماثيل شرك، والديمقراطية مرفوضة لأنها حكم البشر وليست حكم الله، ومعاملة أهل الذمة على قدم المساواة إن لم تكن منكرًا فهى مكروهة، ولا ولاية للذمى، وباختصار عليهم أن يهدموا كل شيء، ويظلموا كل شيء، ويمنعوا كل شيء، وأن تقام دولتهم على أنقاض كل شيء، وبديهى أن الحديث فى هذا الإطار عن حرية الفكر لغو، وأن ادعاء حرية العقيدة هراء، وأن تصور نهضة الأدب أو الفن نوع من أحلام اليقظة لا يستقيم مع الواقع، ولا يستقيم الواقع معه، ولعل هذا أحد أسباب حرصهم على الامتناع عن بلورة برنامج سياسى متكامل، به قدر قليل من المواعظ والكلمات الطنانة، وقدر كبير من تصور الواقع أو معايشته، وبه قدر ولو معقول من احترام عقولنا، ناهيك عن احترام مشاعرنا.