الخميس 25 أبريل 2024
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي
رئيس مجلسي الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي

آراء حرة

لا أحب.. وإنما أحب

تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق google news
بينما كنت مع بعض زملائى فى أعماق إحدى الصحارى العربية، منذ نحو عشر سنوات ماضية، جاءنا من أقصى تلك الصحراء أعرابى يتكئ على عصاه، كان مسنًا تعدى عمره الثمانين، ورأسه مشتعل شيبًا ووجهه مليء بالتجاعيد، وكان يلبس زيًا مكونًا من رداء وإزار كملبس حجاج بيت الله الحرام، غير أن لونهما كان يميل كثيرًا للاصفرار كلون رمال الصحراء، وكانا يتشحان من فرط الاتساخ بكثير من السواد، وكان أشعث أغبر كأنما كان على سفر استغرق بضعة أشهر فوق إحدى الدواب، وكانت تبدو فى كفيه وقدميه الخشونة وكثير من التشققات، وكانت عصاه تبدو وكأنها غصن غليظ مقطوع من شجرة عتيقة من أشجار ذات البيئة أصابها الجفاف، يشعر من يراها فى يده أنها منسأة سليمان عليه السلام.
ألقى علينا تحية الإسلام ودار بيننا حوار، فعَلِمَ منا أننا من أكثر من دولة عربية وعلمنا منه أنه لم يغادر بيئته الصحراوية، وقد أدهشنى حين سألني: كيف حال الزعيم، قلت: أى زعيم؟!، قال: ألست من مصر؟، قلت: نعم بالطبع، قال: الزعيم جمال عبدالناصر، قلت: أوتعرف جمال عبدالناصر؟!، قال: نعم لأنه يعمل ليس فقط لصالح مصر وإنما لصالح كل العرب كيف حاله؟، قلت وأنا مشفق عليه: زين! .. جمال عبدالناصر زين!، أى «طيب وبخير» .. فلم أشأ فى ذلك الحين أن أشعر الرجل أنه كأصحاب الكهف والرقيم، لأن الزعيم كان قد مات منذ أعوام يقدر عددها آنذاك بنحو خمسة وثلاثين، ولم أشأ أن أشعره وهو فى هذا العمر الكبير بألم شديد إن أخبرته بموت عزيز!، ومن العجيب أنه لم يكذبنى وقتئذ أحد من الزملاء لأنهم كانوا يشفقون على الرجل ذات الإشفاق!، بل إنهم قالوا لى فيما بعد: نِعْمَ ما قلت!
فى عموده (مواقف) بصحيفة الأهرام بتاريخ ٢٧/٠٢/٢٠٠٨ قال الكاتب الراحل أنيس منصور: «وقد روى الصديق عمرو موسى أمين الجامعة العربية من ثلاث سنوات أنه ذهب للصلاة فى مسجد بالقرب من طنطا‏ ‏ وفوجئ بالخطيب يدعو للملك فؤاد بالعافية، ويرجو الله أن يرسى قوائم العرش‏.. شيء عجيب‏!‏ .. وأعجب من ذلك أن المسجد من أوله لآخره فيما عدا عمرو موسى وحراسه وسكرتيره يقولون‏:‏ آمين‏!‏ .. ولك أن تندهش على مهلك‏:‏ كيف يحدث هذا بالقرب من طنطا‏..‏ كيف أن كل هؤلاء الناس لم يعرفوا أن فؤاد قد مات وفاروق أيضا؟ كيف لم يسمعوا الإذاعة ولا رأوا التليفزيون ولا قرأوا فى الصحف، لا أحد كأنهم من أهل الكهف أو أنهم أهل الكهف الذين ناموا ثلاثة قرون‏..‏ كيف ناموا تسعين عامًا نومًا عميقًا لم يفتحوا فيها عينا ولا أذنا‏!؟» انتهى كلام أنيس منصور.
من محاسن قدرى التى لا تنسى أنى التقيته من قبل أن يرحل عن الدنيا .. زرته فى بيته، وهو يرقد علي الفراش كمريض عام تسعة وتسعين، وكان عمره فى ذلك الحين يزيد قليلًا علي الثمانين، فرأيت فى غرفته الأعاجيب، لم يكن فيها إلا سرير، أما باقى حجم الغرفة الكبير فكان معظمه يمتلئ بأعداد لا حصر لها من صحيفة الأهرام صدرت على مدار عشرات العقود السابقة، وكذلك أعداد لا حصر لها من مجلات مصرية متنوعة، كانت تصدر فى تلك العقود الماضية، فضلًا عن كم هائل من الكتب المصرية والفرنسية معظمها غاية فى القِدَم، وكانت معظم أوراق تلك الصحف والمجلات والكتب، تبدو صفراء من فرط القدم وتغرى القارئ بمجرد النظر، شعرت أننى فى مكتبة أثرية أو فى محيط سور أعظم من محيط سور الأزبكية، وأننى أجلس إلى جوار كونفوشيوس حكيم الصين أو الحكيم الفرنسى فولتير، كان شعره أبيض ومسترسلًا وطويلًا، وكان وجهه برغم كِبَرِ سنه قليل التجاعيد، وكانت عيناه تتمتعان بصفاء عجيب، وكان كلامه يبهر السامعين إذ كان يتحدث بلسان حكيم.
كان من أهل مدينة دمنهور وعلمت منه أنه درس فى جامعة السوربون، قال لي: حدثنى عن الكمبيوتر، فلما فعلت قال: أشعر الآن أنى قد مِت، أنا حزين لأنى الآن طريح الفراش ومريض لا أستطيع الحراك وأوشك على الرحيل من دون أن أتعامل مع هذا الجهاز!، إن حظكم يا شباب اليوم بهذا الجهاز الفريد أعظم من حظنا بكثير!، كنت أظن أنى قد حصَّلتُ قدراً لا بأس به من العلم، وبعد كلامك شعرت أننى سأموت وأنا غارق فى الجهل، قلت له آنذاك: إنى على استعداد للتخلى عن هذا الجهاز شريطة أن أحبس فى هذه الغرفة لأستكشف كنوز محتوياتها وأنهل من حكمة صاحبها سنوات طوالًا.
لا أحب أن أكون كالأعرابى أعيش بمعزل عن أن أعلم، ولا أحب أن أكون كالشيخ والمصلين .. أعلم ثم أسلك مسلك من يجهل، وإنما أحب أن أكون كابن مدينة دمنهور الذى درس فى السوربون ولم يعش بمرور العقود بمنأى عن العلم والعلوم، وإنما ظل إليهما يتوق وينهل منهما حتى الموت، وكان فى حياته إن تكلم أخرس من يجهل وأبهر من يعلم.