الأربعاء 24 أبريل 2024
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي
رئيس مجلسي الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي

آراء حرة

القادم أسوأ

تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق google news
يوم أسود آخر، يوم تعيس آخر، لا لبريطانيا بل للحضارة والتمدن. يمين أوروبا المتطرف يضغط لإجراء استفتاءات مشابهة. دونالد ترامب يقترب خطوة من البيت الأبيض. الاقتصاد العالمى قد يكون فى مهب العواصف. التخويف من المهاجرين ينتفخ. اللقاح بين الفكر المحافظ والأزمة الاقتصادية ينتج دائمًا الأسوأ، والأسوأ هو ما رفعه الاستفتاء عاليًا.
هذا ليس لإثارة الذعر. إنه ما تعدنا به أكثرية البريطانيين الذين انتصر فيهم ما هو معتم على ما هو مضيء.
القومية الضيقة الأفق انتصرت، وإن تغير معناها: لم تعد تطمح إلى وطن كبير ذى مدى حيوى. القوميون البريطانيون صوتوا لبلد أصغر، أى لبريطانيا التى سيؤدى الخروج من أوروبا إلى حرمانها من أسكتلندا وأيرلندا الشمالية، وربما ويلز. لكن الشرية القومية استمرت تحريضًا وتخويفًا وخلقًا لجو قُتلت فيه جو كوكس التى ذهبت دماؤها هدرًا. القوميات باتت تستعير لسان الأقليات والإثنيات المطالبة بالحقوق والانفصال وحق تقرير المصير.
وانتصرت البلدات على المدن، وخصوصًا على المدينة الكوزموبوليتانية لندن المتشابكة مع العالم. حتى المدن الصناعية القديمة فى الشمال، كمانشيستر وليفربول، التى قيل إنها متضررة من أوروبا والعولمة، صوتت، لأنها مدن كبرى، للبقاء.
مَن هم دون الثلاثين انهزموا لمصلحة من هم فوقها. ثورة المعلومات والاتصالات، وفى غد قريب الثورة الروبوتية، كلها انهزمت. العزلة بوصفها نتاج الخوف من اللاجئين ومن الاتفاقات التجارية العابرة للحدود، ومن التقدم التقنى، انتصرت على المغامرة بالانفتاح.
الغرائز انتصرت على العقل النفعى، انتصار المؤامرة على التحليل العقلانى. لا، ليس الاتحاد الأوروبى «احتلالًا نازيًا»، ولا مغادرته «استقلالًا»، كما قال الداعون إلى المغادرة بمن فيهم يساريوهم الذين اتهموا أوروبا بالتسبب بالنيوليبرالية، وما تُحدثه من فقر. هذا أيضًا ليس صحيحًا: مارجريت تاتشر، البريطانية جدًا، ومن بعدها تونى بلير هما المتسببان. وهم تجاهلوا تمامًا أن قوانين أوروبا فيما خص العمل والحقوق الجندرية متقدمة جدًا على قوانين بريطانيا أو أية قوانين قومية أخرى.
والراديكالية انتصرت على التدرج وعلى «الوسط» الذى يعانى محنته فى كل البلدان الديموقراطية. نعم، أوروبا بيروقراطية وبحاجة إلى الدمقرطة، ونعم، هناك معاناة إنسانية يعانيها الأضعف والأقل تأهيلًا، ونعم، تضغط الهجرة الأوروبية الشرقية فى بعض المناطق على فرص العمل، وعلى الخدمات والتقديمات الصحية والتعليمية.. لكن الحل هو ما كان يُفترض أن يأتى من داخل أوروبا وبسعى نضالى وديموقراطى لتوفير صمامات أمان اجتماعى للأفقر والأضعف. أما الخروج والمقاطعة والإسقاط والتحطيم فينسى حقيقة كونية، وبريطانية بالأخص، هى أن الثورة الصناعية الأم فى القرن الثامن عشر رتبت أكلافًا إنسانية غير مسبوقة، لكنها أعادت اختراع العالم، ولا سيما بريطانيا، وكانت مصدرًا لثراء غير مسبوق وللتنظيم الاجتماعى والنقابى الذى ضمن حقوقًا غير مسبوقة كذلك.
النسيان انتصر أيضًا على التذكر: هذه الأوروبا التى يريدون فرطها، وأغلب الظن أن ينجحوا فى ذلك، هى التى ضمنت، منذ قيامها، سلامها وسلام العالم بعد حربيه العالميتين اللتين كلفتا ٦٠ مليون قتيل، وهذا ما أنتج وينتج بعض أزماتها الراهنة، امتصت آثار التحول الكبير فى أوروبا الشرقية والوسطى بعد سقوط المعسكر السوفيتى.
وبعض الذين انتصروا أصدقاء بشار الأسد، من فلاديمير بوتين إلى مارين لوبن. لكن المدهش أن هؤلاء جميعًا يفكرون على نحو «داعشى» مفاده بأن دخول المستقبل أصعب من الارتداد إلى الماضى. الماضى سهل دائمًا.
نقلًا عن الحياة اللندنية.