الجمعة 19 أبريل 2024
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي
رئيس مجلسي الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي

آراء حرة

قراءة جديدة في أوراق الأمويين "٢"

تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق google news
لا يجوز أن نتحدث عن تلك الدولة دون أن نتوقف أمام ثلاثة خلفاء هم اليزيدان (يزيد بن معاوية ويزيد بن عبدالملك) والوليد بن يزيد.
أما يزيد بن معاوية، فقتله للحسين معروف، وقد أفاض فيه الرواة بما لا حاجة فيه لمزيد، غير أن هناك حادثة يعبرها الرواة في عجالة، بينما نراها أكثر خطرًا من قتل الحسين، لأنها تمس العقيدة في الصميم، وتضع نقاطًا على الحروف إن لم تكن النقاط قد وضعت على الحروف بعد، وتستحق أن يذكرها الرواة، وأن يتدارسها القارئ في أناة، وأن يتذكر أنها حدثت بعد نصف قرن من وفاة الرسول، فقط.. نصف قرن.
لقد هاجم جيش يزيد المدينة، حين خلع أهلها بيعته وقاتل أهلها قليلًا ثم انهزموا فيما سمى بموقعة (الحرة) فأصدر قائد الجيش أوامره باستباحة المدينة ثلاثة أيام قيل إنه قتل فيها أربعة آلاف وخمسمائة، وإنه قد فضت فيها بكارة ألف بكر، وقد كان ذلك كله بأمر يزيد إلى قائد جيشه (مسلم بن عقبة):
ادع القوم ثلاثًا فإن أجابوك وإلا فقاتلهم، فإذا ظهرت عليها فأبحها ثلاثًا، فكل ما فيها من مال أو دابة أو سلاح أو طعام فهو للجند، فإذا مضت الثلاث فاكفف عن الناس).
ولم يكتف مسلم باستباحة المدينة بل طلب من أهلها أن يبايعوا يزيد على أنهم (عبيد) له، يفعل فيهم وفى أموالهم وفى أولادهم ما يشاء، وهنا يبدأ مسلسل المفاجآت في الإثارة، فالبعض ما زال في ذهنه (وهم) أنه في دولة الإسلام، وأنه قادر على إلزام مسلم ويزيد بالحجة، بما لا سبيل إلى مقاومته أو حتى مناقشته، وهو لا يقبل شروط مسلم، ويرد عليه كأنه يلقمه حجرًا: (أبايع على كتاب الله وسنة رسوله).
ولا يعيد مسلم القول، بل يهوى بالسيف على رأس العابد الصادق في رأينا، والرومانسى الحالم في رأى مسلم، ويتكرر نفس المشهد مرات ومرات، هذا يكرر ما سبق، فيقتل، وهذا يبايع على سيرة عمر فيقتل، ويستقر الأمر في النهاية لمسلم، وما كان له إلا أن يستقر، فالسيف هنا أصدق أنباء من الكتب، وهو سيف لا ينطق بلسان ولا يخشع لبيان ويصل الخبر إلى يزيد، فيقول قولًا أسألك أن تتمالك نفسك وأنت تقرأه، وهو لا يقوله مرسلًا أو منثورًا، بل ينظمه شعرًا، اقرأه ثم تخيل وتأمل وانذهل:
ليت أشياخى ببدر شهدوا جزع الخزرج من وقع الأسل
حين حكت بقباء بركها واستمر القتل في عبد الأشل
والذي يعنينا هو البيت الأول الذي يقول فيه (ليت أجدادى في موقعة بدر شهدوا اليوم كيف جزع الخزرج من وقع الرماح والنبل)، أما من هم أجداده، فواضح أنهم أعداء الخزرج في موقعة بدر، والخزرج أكبر قبائل الأنصار، وكانوا بالطبع في بدر ضمن جيوش المسلمين، وهنا يزداد المعنى وضوحًا، فيزيد خليفة المسلمين، وأمير المؤمنين، يتمنى لو كان أجداده من بنى أمية، ممن هزمهم الرسول والمهاجرون والأنصار في بدر، يتمنى لو كانوا على قيد الحياة، حتى يروا كيف انتقم لهم من الأنصار في المدينة، ثم نجد من ينعت الخلافة بالإسلامية.
ولا يتوقف أمام هذه الحادثة لكى يقطع الشك باليقين وليتحسر على الإسلام في يد حكام المسلمين، وليترحم على شهداء الأنصار انتقامًا منهم لمناصرتهم للرسول والإسلام، وعلى يد من، على يد (أمير المؤمنين) وحامى حمى الإسلام والعقيدة، ويروى ابن كثير في (البداية والنهاية) الأبيات السابقة في موضعين أحدهما موقعة الحرة، وثانيهما عندما وصل رأس الحسين إلى يزيد.
ولو صدقت الثانية لكانت أنكى وأمر، لأن الانتقام هنا مباشر من الرسول في آل بيته، ويضيف ابن كثير بيتًا يذكره متشككًا دون أن يقطع الشك باليقين، داعيًا باللعنة على يزيد إن كان قد قاله والبيت يقول:
لعبت هاشم بالملك فلا ملك جاء ولا وحى نزل
ولعلى أستبعد أن يقول يزيد هذا، فللفكر درجات، وللمروق حدود، وللتفلت مدى، وكل ذلك لم يشفع لفقهاء عصر يزيد ولكـتاب تاريخ الخلافة الإسلامية أن يذكروا أن يزيد مغفور له، وأن ذلك ثابت بالأحاديث النبوية، فابن كثير يذكر (البداية والنهاية المجلد الرابع الجزء الثامن ص ٢٣٢):
(كان يزيد أول من غزا مدينة القسطنطينية في سنة وأربعين.. وقد ثبت في الحديث أن رسول الله قال: «أول جيش يغزوا مدينة قيصر مغفور له»).. ولا تعليق.
وننتقل إلى يزيد بن عبدالملك، التاسع في الترتيب بين خلفاء بنى أمية، وأحد أربعة تولوا الخلافة من أبناء عبدالملك بن مروان هم على الترتيب، الوليد وسليمان ويزيد وهشام، ونحن نخص منهم يزيد بالحديث، لأنه أتى في أعقاب عمر بن عبدالعزيز، الذي قيل عنه إنه ملأ الدنيا عدلًا طوال عامين، فإذا بيزيد يأتى بعده لكى يملأها مغانى وشرابًا ومجونًا وخلاعة، طوال أربعة أعوام، ويذكر السيوطى (تاريخ الخلفاء ص ٢٤٦):
أنه ما أن ولى (حتى أتى بأربعين شيخًا فشهدوا له ما على الخليفة حساب ولا عذاب).
وهنا يدرك القارئ أن العلة لم تقتصر على الخلفاء، وإنما امتدت أيضًا إلى العلماء والفقهاء، وأنه ما دام هؤلاء يفتون أنه لا حساب على يزيد ولا عذاب ولا عقاب، فليفعل يزيد ما يشاء، وليتفوق على خلفاء الدولة الإسلامية كلها في بابين لا يطاوله فيهما أحد وهما العشق والغناء، فقد بدأ خلافته بعشق (سلامة) وانتهت خلافته، بل وحياته بسبب عشقه لجارية أخرى اسمها (حبابة).
وقبل أن نتحدث عن بعض من ذلك، نذكر له أيضًا رغبة تفرد بها بين الخلفاء، وذكرت له، ونقلت عنه، وهى رغبته في أن (يطير).
وقصة ذلك أنه كان يومًا في مجلسه، فغنته حبابة ثم غنته سلامة (فطرب طربًا شديدًا ثم قال: أريد أن أطير، فقالت له حبابة: يا مولاى، فعلى من تدع الأمة وتدعنا).
طبعًا، ماذا يفعل المسلمون لو طار الخليفة، من يملأ أنحاء الدولة الإسلامية طربًا وغناء، وعشقًا واشتهاء، ويذكر المسعودى (أن أبا حمزة الخارجى قال: أقعد يزيد حبابة عن يمينه وسلامة عن يساره، وقال أريد أن أطير، فطار إلى لعنة الله وأليم عذابه).
ويروى ابن كثير قصة وفاة يزيد على النحو التالى (البداية والنهاية لابن كثير مجلد ٥ جزء ٩ ص ٢٤٢، ويذكر المسعودى نفس الرواية في مروج الذهب ج ٣ ص ٢٠٧):
(وقد كان يزيد هذا يحب حظية من حظاياه يقال لها حبّابة بتشديد الباء الأولى وكانت جميلة جدًا، وكان قد اشتراها في زمن أخيه بأربعة آلاف دينار، من عثمان بن سهل بن حنيف، فقال له أخوه سليمان: لقد هممت أن أحجر على يديك، فباعها، فلما بقى أفضت إليه الخلافة قالت امرأته سعدة يومًا: يا أمير المؤمنين، هل بقى في نفسك من أمر الدنيا شيء؟ قال نعم، حبابة، فبعثت امرأته فاشترتها له ولبستها وصنعتها وأجلستها من وراء الستارة، وقالت له أيضًا: يا أمير المؤمنين، هل بقى في نفسك من أمر الدنيا شيء؟، قال: أو ما أخبرتك؟ فقالت هذه حبابة وأبرزتها وأخلته بها وتركته وإياها فحظيت الجارية عنده وكذلك زوجته أيضًا، فقال يومًا أشتهى أن أخلو بحبابة في قصر مدة من الدهر، لا يكون عندنا أحد، ففعل ذلك، وجمع إليه في قصره ذلك حبابة، وليس عنده فيه أحد، وقد فرش له بأنواع الفرش والبسط الهائلة، والنعمة الكثيرة السابغة، فبينما هو معها في ذلك القصر، على أسر حال وأنعم بال، وبين أيديهما عنب يأكلان منه، إذ رماها بحبة عنب وهى تضحك، فشرقت بها وماتت، فمكث أيامًا يقبلها ويرشفها وهى ميتة حتى أنتنت وجيفت فأمر بدفنها، فلما دفنها أقام أيامًا عندها على قبرها هائمًا ثم رجع فما خرج من منزله حتى خرج بنعشه).