الثلاثاء 23 أبريل 2024
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي
رئيس مجلسي الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي

آراء حرة

سوريا والعودة إلى مربع "جنيف 1"

تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق google news
خمس سنوات وأكثر مرت، منذ أن ضربت عواصف «الربيع العربى» سوريا، دون أن يكون هناك أى تركيز جدى على الخلل الرئيسى الذى هو الآفة الطائفية، وإلى جانبها الصراعات والتناحرات العرقية (القومية) والخلافات والمشاحنات العشائرية، سبب هذه الحرب المحتدمة التى يصفها الغرب بصورة عامة بأنها حربٌ أهلية، فى حين أن النظام ومعه حلفاؤه الروس والإيرانيون وتوابعهم يرفضون هذا الوصف، ويعتبرون أن هذا الصراع الذى تواصل على مدى هذه الفترة الطويلة، والذى غير مستبعد أن يستمر لخمسة أعوام أخرى وربما أكثر، هو مع مجموعات وتشكيلات إرهابية وتكفيرية!
وبالطبع فإن المعارضة المعتدلة لا تنكر أن لجوء هذا النظام وعلى مدى الفترة منذ عام ١٩٧٠ إلى عمليات الاستقطاب الطائفى التى لجأ إليها قد مكن «الطائفة العلوية»، وفى الحقيقة بعض أطرافها ومكوناتها من السيطرة على كل المفاصل الرئيسية فى الدولة السورية، وبخاصة الأجهزة الحساسة كالجيش والمخابرات، مما أدى إلى احتكار السلطة والسياسة، واحتكار القوة وكل شىء، وهذا هو ما أدى إلى انتفاضة ٢٠١١.
لكنها، أى المعارضة السورية، تضيف إلى العامل الطائفى - العائلى عوامل أخرى من بينها الاستبداد والقمع وغياب الحريات العامة، وإهانة الشعب السورى، وتحويل سوريا كلها إلى معتقل كبير، وحقيقة أنه لو أنَّ هذا البلد، كان محصنًا، ولو فى الحدود الدنيا، لمرَّت به عواصف الربيع العربى كما مرَّت بالأردن وبعض الدول العربية الأخرى أو على الأقل كما مرت بتونس ومصر وليبيا.
وهنا وللإنصاف، فإنه لا بد من الإشارة إلى أن بدايات الصِّدام والتناحر والتنافس الطائفى والعرقى والعشائرى كانت قد ظهرت فى سوريا وربما فى العراق ولبنان وباقى دول هذه المنطقة كلها، عندما ضعفت السلطة العثمانية، وأفسح ضعفها المجال واسعًا للدول الطامعة بأنْ تمد أيديها لتلعب بتركيبتها الداخلية بذريعة وحجة حماية الأقليات الطائفية والمذهبية والعرقية والعشائرية من «تغوُّل» الأكثرية السنية العربية! فكان أنْ نصَّبت فرنسا نفسها حامية للموارنة فى لبنان، ونصبت روسيا القيصرية نفسها حامية للمسيحيين الأرثوذكس فى الشرق العربى كله، فى حين أنه كان لبريطانيا حصتها عندما تبنت اليهود والدروز، وهذا يبدو أنه لا يزال مستمرًا وإنْ معنويًا على الأقل حتى الآن، وذلك مع الأخذ بعين الاعتبار أن روسيا الاتحادية باتت تتصرف فى هذا المجال، وكأنها الوريث الشرعى لروسيا القيصرية.
والمشكلة أن الفرنسيين عندما انتدبوا دولتهم وفقًا لاتفاقيات «سايكس بيكو» التآمرية لاستعمار سوريا قد بادروا أولاً إلى التخلص من الدولة العروبية- القومية التى كان الملك فيصل الأول قد أقامها وفقًا لمنطلقات الثورة العربية الكبرى، وثانيًا إلى تحويل هذا البلد العربى إلى ثلاثة كيانات طائفية، كيانٌ علوى فى منطقة جبال النصيريين وبعض مدن الساحل، وكيان درزى فى المنطقة التى أصبح اسمها جبل العرب فى حوران، ومنطقة تضم المدن الرئيسية دمشق وحمص وحماه وحلب والرقة ودير الزور والحسكة والقامشلى هى المنطقة السنية التى وُضعت تحت الانتداب الفرنسى المباشر مع وجود هيكل دولة شكلية، استطاع الاستقلاليون تحويلها إلى دولة فعلية مستقلة.
فى كل الأحوال إن المقصود من هذا الاستعراض التاريخى المقتضب هو التأكيد على أنَّ داء الطائفية والعرقية والعشائرية قد بدأ مبكرًا فى «نخْر» جسد هذا الجزء من الوطن العربى قبل استقلال عام ١٩٤٦ وبعده، ومع الإشارة هنا إلى أنه كان بالإمكان معالجة هذا الداء أو ترشيده على الأقل، إنْ لم تكن هناك إمكانية لاستئصاله نهائيًا، فى الفترة ما بين عام ١٩٥٩ وحتى انهيار تجربة: «الجمهورية العربية المتحدة» فى عام ١٩٦١.. هذه الفترة التى شهدت ما يقدَر بنحو أكثر من عشرة انقلابات عسكرية كان أولها انقلاب الجنرال حسنى الزعيم، الذى كان ينتمى مثله مثل رئيس وزرائه عبدالمحسن البرزانى دينيًا إلى المذهب السنى وعرقيًا إلى القومية الكردية.
ويقينا لو أنَّ تجربة حكم حزب البعث التى بدأت فى الثامن من مارس عام ١٩٦٣، استمرت بالتطلعات غير الطائفية وغير العنصرية العرقية التى تبناها، وسار عليها مؤسسوه الأوائل وسَلِمَتْ من تسلط اللجنة العسكرية (السرية) التى تشكلت خلال سنوات (الوحدة) القصيرة العمر فى القاهرة من خمسة ضباط أحدهم حافظ الأسد، لربما أنَّ الأمور فى سوريا قد سارت فى غير هذا المسار الذى سارت عليه خلال نحو نصف قرن بأكمله، وكانت النتيجة كل هذه الكوارث المدمرة وكل هذه الحروب الدامية، وكل هذا التمزق الطائفى والمذهبى والقومى والعرقى.. والعشائرى أيضًا.
وهكذا وباختصار فإن المشكلة الطائفية - المذهبية فى سوريا بدل أن تتراجع قد تنامت وتضخمت للأسف فى بدايات حكم حزب البعث، الذى من المفترض أنه قومى وقادر على استقطاب المسيحيين والعلويين والشيعة والدروز والإسماعيليين عروبيًا، على اعتبار أنه، وعلى لسان مؤسسه وأمينه العام الأول ميشيل عفلق كان يعتبر الرسالة الإسلامية رسالة العرب الحضارية، وكان يعتبر الرسول محمد صلوات الله عليه قدوته.. وهنا بالإمكان الرجوع إلى كتاب: «فى ذكرى الرسول العربى».
لكن حسابات البيدر لم تتطابق مع حسابات الحقل فى هذا المجال، وانتقلت بعد الثامن من مارس عام ١٩٦٣ كل الآفات الطائفية والمذهبية والعرقية والعشائرية إلى حكم البعث، وإلى كل جهازه التنظيمى، وهذا بشهادة ما كتبه عدد كبير من قادة هذا الحزب الأوائل ومن بينهم ميشيل عفلق نفسه، بالإضافة إلى صلاح البيطار ومنيف الرزاز وشبلى العيسمى.. وغيرهم غيرهم كثيرون.. والأسوأ أنَّ حافظ الأسد فى سنوات حكمه قد بادر، لحماية نفسه ونظامه، الذى أصبح نظامًا طائفيًا - عائليًا منذ اللحظة الأولى، إلى وضع كل مفاصل الدولة، وبخاصة الجيش والأجهزة الأمنية بأيدى أقاربه، وأيضًا بأيدى المقربين إليه من الطائفة العلوية، وهذا هو ما جعل الآخرين، وبخاصة العرب السنة، يثورون أكثر من مرة وجعلهم يركبون موجة «الربيع العربى» بسرعة، وحيث أدى العنف الذى تعرضوا له إلى أن تصل الأمور إلى كل هذه الأوضاع الكارثية.
والآن فإن السؤال الذى يجب أن يُبْحث له عن جواب من قِبل كل الذين تعنيهم هذه القضية، وأولهم المعارضة السورية (المعتدلة) والعرب الذين ما زالوا يتمسكون بعروبتهم وبعروبة سوريا هو: ما الحل يا ترى..؟ والجواب هو أن أسوأ الحلول هو بقاء هذا النظام الاستبدادى والطائفى والمذهبى والعائلى، وأن أفضل الحلول هو حل «جنيف١» الذى نص على مرحلة انتقالية من دون بشار الأسد وعلى حكم انتقالى لا يُقصى منه أى مكون من مكونات الشعب السورى، وبخاصة العلويين والدروز والإسماعيليين والمسيحيين، وأيضًا أبناء الأقليات القومية أو العرقية، وفى مقدمتهم الأكراد الذين لا يمكن استثناؤهم من حكم بلد هو بلدهم، ووطن هو وطنهم بذل آباؤهم وأجدادهم من أجله أرواحهم ودمائهم الذكية.
نقلا عن «الشرق الأوسط»