رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي
رئيس مجلسي الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي

آراء حرة

الاستقرار قبل الحُرية

تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق google news
فى تاريخ مصر سنوات قسوة، وأزمنة خوف، واضطراب تصل بالناس إلى تمنى حُكم الظلمة والقتلة بشرط تحقيق الاستقرار. فى زمان الدولة الفاطمية بالقاهرة خليفة اسمه «المستنصر بالله» كان أكثر الخلفاء بقاء على عرش مصر، إذ ظل فى الحُكم ستين عاما امتدت من ٤٢٧ إلى ٤٨٧ هجرية. وشهد عهد ذلك الخليفة عدة أحداث خطيرة، كان أبرزها المجاعة الأقسى والأطول فى تاريخ مصر التى سماها المؤرخون بـ«الشدة المُستنصرية»، وطالت سبعة أعوام فى الفترة من ٤٥٨ إلى ٤٦٤ هجرية. فى تلك المجاعة القاسية هبط النيل كما لم يهبط من قبل، وجفت المزارع، وندرت المحاصيل الزراعية، ونفقت الماشية، وارتفعت أسعار اللحوم والبقوليات والخضروات، ثُم اختفت تماما. فى البداية اضطر الناس إلى أكل الحمير والخيول، ثُم قاموا بذبح كلاب الشوارع والقطط الضالة حتى بيع الكلب بخمسة دنانير والقطة بثلاثة دنانير. بعد ذلك اتسعت الأزمة، واضطر الناس إلى أكل بعضهم البعض، وانتشرت عصابات لاختطاف الأطفال والمجانين لذبحهم، وصنع البعض خطاطيف لاصطياد السائرين فى الشوارع لأكلهم، وفشلت جهود وصرامة عساكر الخليفة فى السيطرة على الموقف لعدم وجود رواتب كافية لهم. واندفع الناس إلى بيع قصور ومنازل مُقابل حفنات من الشعير أو أجولة من التمر، بينما قامت كثير من النساء بعرض أنفسهن فى الأسواق كجوار ليجدن ما يسد رمقهن. 
ويبدو أن الخليفة المستنصر بالله الذى كان مثالا فى الثراء والترف، اضطر إلى بيع حُلى نسائه للإنفاق على الجُند وعلى الطعام، حتى صار لا يمتلك شيئا، وعندما قام الأهالى بهوجة غضب لاقتحام قصره، لم يجدوا فيه شيئا ليُسرق، ووجدوا الخليفة المستنصر نفسه جالسا على حصيرة ومعه ثلاثة عبيد فقط. وكان من المُثير للأسف أن ذلك الخليفة كان يتقبل الصدقات حتى إن ابنة عالم دين شهير اسمه أبشاذ كانت تتصدق عليه كُل يوم برغيفى خبز. وظل الفقر والبؤس هو الحاكم الفعلى لمصر حتى عاد الفيضان فجأة، وبدأت المياة تغزو الأراضى الزراعية لتعود المحاصيل الزراعية مرة أخرى، وهو ما دفع الخليفة المستنصر أن يبعث إلى القائد والسياسى المُحنّك بدر الجمالى والى عكا يعرض عليه وزارة مصر مقابل تحقيق الأمن والاستقرار. ووافق بدر الجمالى على عرض الخليفة مُشترطا جلب جنوده معه. وبالفعل أعاد الوزير القادم من عكا الاستقرار لمصر، وأنهى على الفتن، وقبض على العصابات المُنتشرة فى طول البلاد وعرضها، لكنه فى الوقت نفسه تحول إلى الحاكم الفعلى لمصر، وأصبح الخليفة الفاطمى مُجرد ظل للدولة لا يُقدم ولا يؤخر. ومن يومها والناس عبيد مَن يُطعمها، تبع لمن يُحقق استقرارهم، راضين بالرجال الأقوياء. ومَن يُراجع تاريخ الثورات والانتفاضات المصرية يجد ضيق لُقمة العيش هى السبب الأول. وللأسف لم تكن الحرية هى المبغى وإنما الأمن والاستقرار. 
والله أعلم.