الإثنين 13 مايو 2024
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي
رئيس مجلسي الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي

آراء حرة

"أهلًا يا بكوات" بلا رقابة!

تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق google news
أنهيت المسرحية أخيرا وسميتها «أهلا يا بكوات»، وكنت قد شاهدت للمخرج عصام السيد عرضا قصيرا، فقررت أن أعطيه إخراجها دون أن أخبره، لأننى لا أعرفه.
ذهبت بالمسرحية أخيرا، فرأيته فى فناء «القومى»، فصافحته دون كلام، ودخلت إلى محمود ياسين، ففرح بشدة، ثم قلت له إننى أرشح «عصام» لإخراجها، فقال لك ما تشاء. 
قلت هل أنزل لأخبره بهذا؟ فقال لا، وطلب من الساعى أن يأتى به، وقال له إننى رشحته لها.
وبعد أيام أرسل المخرج إلى السلطات بأنه الأحق أن يخرج المسرحية، لأن عصام يعمل بمسرح آخر - ودون أن يكون قد قرأ النص! - وبالطبع لم يستمع إليه أحد. وتفانى عصام فى العمل ومعه عزت العلايلى وحسين فهمى.
وكذلك البقية. وأخذت المسرحية وقتا طويلا حتى تظهر بدقة. 
ثم جاء دور الرقابة، فطلبت الرقيبة حذف كلمة «اشتراكى» التى جاءت فى النص. وكانت الملحوظة تبعث على الضحك فسألتها أليست الاشتراكية هى سياسة الدولة؟ وعندنا «مدع عام اشتراكى» بالفعل؟ ومع ذلك فالمسرحية لا تدعو إلى الاشتراكية، فالأحداث تقع قبل معرفة الاشتراكية فلماذا الفزع، قالت السيدة كلاما كثيرا بلا معنى، وأطلت أنا النقاش متلذذا، وسيعرف القارئ السبب فى سياق الحوار الذى جاءت به الكلمة القنبلةَ من وجهة نظرها:
«آمنة (الجارية): أنا مقطوعة من الأهل، وسيدى برهان اشترانى من مولايا.
نادر (مذعورًا): اشتراكى؟
آمنة: أى والله بخمسة دينار، مع أن أتخنها جارية بيضاء ما يندفع فيها أكثر من ثلاثة!».
لم يثبت أبدا أن الرقيب أكثر وطنية من الكاتب ولم يصادفنى أبدا رقيبا أذكى من أضعف كاتب، لكن هذا هو ما كتب على جبين مصر المحروسة منذ أكثر من نصف قرن. وهكذا ظهرت المسرحية بلا أى رقابة.
فى المسرحية يجد صديقان نفسيهما وقد عادا للماضى قرنين، أى قبيل دخول نابليون مصر، ويحاول أحدهما أن يغير التاريخ مستندا إلى معرفته بحقائق اليوم، لكنه يفشل فى إقناع أهل الماضى بالتغيير حتى بعد أن يخبرهم بما سيحدث ويمدهم بمخترعات وأفكار لمقاومة نابليون. فتقوده أفكاره للسجن. 
بينما يجارى صديقة أهل الماضى فى جهلهم فيفوز بمركز مرموق. وفى نهاية المسرحية يتكرر منظر حارة مصرية فى الماضى سبق أن رآها المتفرج فى الفصل الأول، لكن البطل يسمع نداء باعة صحف وأغان تنبعث من راديو فيختلط الزمن فى ذهنه.
والواقع أن الزمن يختلط فى ذهن المتفرج نفسه، ويكتشف بعد قليل أن المشهد يحدث الآن فى الحاضر، ولا توجد مفاجأة أو خلط، فشكل الحارة فعلا لم يتغير منذ قرنين، التحايل هنا بصرى أيضا، والرسالة واضحة، فالبطلان لم يعودا إلى الوراء، لأننا ما زلنا نعيش فيه! فكرة المسرحية كما ذكرت المسرحية بدأتها من عام أغسطس ٨٢، وعرضت فى يناير ٨٩، وكانت التيارات السلفية تستعد لتعلن عن نفسها بوضوح، فوصلت للمسرح خطابات تهدد بحرقه. فصدرت الأوامر بعدم دخول السيارات إلى فناء المسرح ما لم يكن من أحد العاملين به. وفوجئت بعدها بوضع حراسة على منزلى لعام ونصف، ودون أن أطلب، بل ضايقنى.
وظهرت «أهلا يا بكوات» بلا أى رقابة، ونجحت المسرحية منذ اليوم الأول، وامتلأ بالجمهور الكثيف. وجذبت كثيرا من كبار الشخصيات فى مصر والعرب وأيضا من الأجانب.
وشد رئيس الوزراء وهو يشاهدها على يدى بعد الفصل الأول وقال لى «خد بالك من نفسك». فضحكت فى سرى، لأنه هو نفسه قد تعرض جديا للقتل ونجا منه! أما وزير الداخلية فقد صعد للمسرح فى حفلة وأعطانا ميداليات فضية سريعة الصدأ، وخطب فى الجمهور قائلا إن المسرحية تثبت أن عندنا حرية رأى.
أما يوسف إدريس فقال لى أيضا بعد الفصل الأول «أنت متهور»! رغم أن التهور كان بالفصل الثانى.
فازت المسرحية بتأييد كل النقاد. لكن ما أسعدنى أكثر أنها فازت بأكبر جمهور منذ تأسيس الفرقة عام ٣٣ وحتى اللحظة التى أكتب فيها هذا المقال. وأعيد تقديمها مرات كثيرة فى عدة مواسم وسنوات كثيرة. ومثلت مصر فى مهرجان مسرحى فى بغداد أيام حربها مع إيران. وسافرت مع الفرقة، لكن حقيبتى لم تصل فأعطانى صحفى مصرى كان معنا بعض الملابس. وفى الفندق الذى نزلنا فيه رأيت الصحفيين العراقيين يقفون فى البهو يسددون كاميرات كبيرة، ليأخذوا رأى الجميع فى مبادرة صدام للسلام. وحاصرنى أحدهم بالسؤال فقلت له إنهم أخذوا حقيبتى فإذا أعادوها لى سأقول رأيى، وهنا هرب كل الصحفيين من أمامى.
واكتظ المسرح فى العراق. وزارنا الملحق العسكرى المصرى وسأل عزت وحسين فهمى عن أى طلب فشكراه، فانتهزت الفرصة وقلت له أمر حقيبتى، وإذا جاءت سأغادر فورا، وكان معه أحد رجاله فطلب منه أن يأتى لى بالحقيبة. وبالفعل وجدها محتجزة بغرفة بالمطار ولم يكن بها سوى بعض مسرحياتى المطبوعة!