رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي
رئيس مجلسي الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي

ملفات خاصة

محمد العسيري يكتب: عرفتهم "21".. إبراهيم رجب.. جمَلْ السيدة زينب

محمد العسيري وإبراهيم
محمد العسيري وإبراهيم رجب
تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق google news
وإحنا عيال صغيرين كانت جميع ألعابنا «هاندميد».. يعنى البنات يعملوا العرايس من القطن والهدوم القديمة.. والولاد يعملوا الكورة من «القماش» برضه.. وما فيش مانع نلف عليها دوبارة.. وبعدين نغمسها فى «البلكّ».. اللى هوه «المازوت»
من الطين نعمل أشكال صلصال و«ترانات».. والأخيرة عبارة عن «دائرة طينية مخرومة بثلاث فتحات» بعد أن تنشف تحت صهد الشمس نقوم بإدخال خيط حرير «تو» ونشده من الأطراف.. وهكذا من «فخ» صيد القمرى المعمول من الحديد.. للسنارة الحديد برضه.. للاسكوتر الخشب وما كانش اسمه «اسكوتر» طبعًا.
كل شيء من الطبيعة.. وفى طبيعة الصعيد الذى كان أيام طفولتنا «فراشات» كنا نطاردها وطيور لا نقرب منها لأنها فى عرف أهلنا مقدسة.. ومنها «هدهد سليمان».. و«جمل السيدة زينب» والأخير لم يكن جملاً على الإطلاق.. هو مجرد فراشة ألوانها جميلة!!.
لسنوات ارتبط اسم «السيدة زينب» فى مخيلتى بهذا الطائر.. وبدعوات أمى لهذه السيدة التى تنصر العواجز.. والتى يذهب والدى سنويا لزيارتها مع «سيدنا الحسين».. ولما كبرنا قليلاً عرفنا أنهم «آل البيت».. وأن الأماكن التى تحيط بمقاماتهم مقدسة عند أهالينا.. وناسها طيبون.. «كفاية إنهم عايشين فى ضل بركة أهل بيت النبي»!.
وحينما جاء الموسيقار النوبى الجميل أحمد منيب لقريتي.. وسمعت منه أغنية عمنا فؤاد حداد «الدنيا برد».. عرفت أنه يعيش فى السيدة زينب.. وأعطانى عنوانه كاملا لزيارته عندما أصل للقاهرة فى أى وقت.. ويا دوب سنتين وعملت فيها جدع - هجيب الديب من ديله بمشوار لحد السيدة - أخدت بعضى وجيت لعم أحمد منيب.. أحلم بعطف السيدة وبركاتها.. وبأن أصبح «شاعر زمانه» عبر بوابة الحاج أحمد منيب.
دخلت بيت الحاج مع صلاة المغرب.. كان فى حارة تقريبا بجوار «الرشيدى الميزان».. كان نزل يصلي.. وانتظرته مع صديق لم أقابله بعدها وإن عرفت أنه الشاعر الجميل محمد القصاص.. المهم عمنا أحمد جه.. وقعد يغنى حاجاته الجميلة ونحن فى غاية المتعة.. ثم توقف ليسمعنى ويعلمنى أول درس.. «مش كل اللى تعيشه تكتبه.. ومش كل اللى يقوله الناس يبقى غنا».. اكتب اللى الناس ما تعرفش تقوله مع إنها عايشاه!!، وخرجت حزينا رغم أن الرجل «أخد منى غنوة.. وبدأ فى تلحينها قدامى كمان:
«ياه عليكى لو ترضي
أبدر حبابيكى فى أرضى»
لكننى شعرت أنه لم يكملها وأنه «عشان ما يكسرش بخاطرى لحن المذهب.. لا أذكر ما تبقى من كلام.. يمكن خالد منيب يفتكر!!، ومن يومها ارتبطت السيدة فى ذهنى بكل ما هو جميل.
من سبعتاشر سنة تقريبًا أرسل لى المؤلف مصطفى إبراهيم سيناريو مسلسل اسمه «أجنحة الشمس».. وطلب أن أكتب أغنياته ليؤديها رامز جلال وحنان شوقى داخل المسلسل كإعلانات وفعلت ولم أعرف من هو الملحن.. حتى فوجئت بأنه عمنا الجميل اللى باسميه «جمل السيدة زينب».. إبراهيم رجب.. صاحب «يا ما زقرق القمرى على شجر اللمون، تعيشى يا بلدي، يا بلدنا لا تنامي، صاحب أغنية فيلم «الكيت كات» الشهيرة اللى غناها محمود عبدالعزيز.. وصاحب مجاريح «هنقول ونعيد ع المجاريح» بتاعة محمد رشدي.. و«أنا عايز صبية يكون قليبها عليا».. من الآخر يعنى ده واحد من آخر الجيل المدهش بتاع الجملة الشعبية اللى ما لهاش زي.. وعرفت أنه ساكن هناك عند «الرصيف اللى فى السيدة بتاع عمنا فؤاد حداد».. وبالمناسبة عم إبراهيم هو نفسه ملحن أغنية «ولا غنى ولا صيت» بتاعة فؤاد حداد اللى غناها محمد قنديل.
دخلت بيت عم إبراهيم اللى بيطل على جنينة.. وجنب منه بيت أثري.. وأول الشارع قهوة من قهاوى السيدة ومحلات عطارة من اللى ترد الروح.. كنت قد حصلت على تليفونه وحددت الموعد.. ووجدتنى أمام قاعة كبيرة ظلمها أهل الموسيقى مائة مرة.
فى نفس البيت اللى عاش فيه الأبنودى مع عم إبراهيم وكتب وهيبة وبلديات وغيرها.. البيت اللى لحن فيه إبراهيم رجب لصلاح جاهين وفؤاد حداد.. نفس البيت ده فيه عشرات من الكراتين اللى فيها «نوت الموسيقي» الخاصة بفيلم «شيء من الخوف».. و«البيه البواب» وفوق الترابيزة الخشب اللى عمرها من عمر أولاد عم إبراهيم شرايط كتير فيها «حلقات شاعر عباد الله» اللى كتبها عمنا فؤاد حداد.. ومش بعيد عنها صورة لسيد مكاوى.
عرفت من عم إبراهيم الذى أصبح الآن «مهندس كمبيوتر» بيحول شرايط الكاسيت إلى سيديهات.. وبيعمل لنفسه موقع ع النت علشان يحط فيه أغانيه، أنه واحد من تلامذة سيد مكاوي.. وأنه أصلا اشتغل مدرس موسيقى فى الأرياف وطلع مع الشيخ سيد يغنى وراه فى الحفلات ويتعلم منه.. وأنه اتعلم بعد كده التوزيع والكتابة.. وأنه دخل المعهد بمسابقة عملها جمال عبدالناصر.. وراح مسرح العرايس اللى كان فى العتبة ومنه عرف شلة الفولكلور والغنا للشعب.
عمنا إبراهيم رجب اللى لحن لسيد حجاب والأبنودى ومجدى نجيب وقبلهم فؤاد حداد وصلاح جاهين.. واللى غنى له عبدالحليم ورشدى وقنديل.. لا جوايز الدولة افتكرته - لأنه ما حدش رشحه - وهو لما تعب واضطر يركب جهاز ينظم ضربات قلبه.. واضطر إنه يتوقف عن التلحين والغنا كمان - بناء على نصيحة الطبيب - لم تسأل عنه نقابة الموسيقى ولا أى جهة فى مصر.. ولم يطلب الموسيقار الكبير الذى تعرفه جامعات العالم المحترمة علاجه على نفقة الدولة ولم يطالب بذلك أحد.
إبراهيم رجب اللى غنى بصوت المجموعة وصوت شريفة فاضل:
«والدك وناسك دهب.. يا بلدنا
رملك وطينك دهب.. يا بلدنا
عنبك وبلحك دهب.. يا بلدنا
قمرك وشمسك دهب.. يا بلدنا»
يتذكره الطين والرمل والبلح والعيش والشمس والقمر.. ولا يذكره ناسها إلا قليلا.. ورغم ذلك لم أشعر لحظة أن الرجل الذى قارب على التسعين غاضب أو حزين.
يوم ١ فبراير من عام ٢٠١٠.. يعنى بعد ستة أيام من بداية ما سميناه ثورة ٢٥ يناير.. فوجئ عم إبراهيم بلافتة كبيرة فى الميدان مكتوب عليها «والله لبكره يطلع النهار يا خال» وصورة لمحمد حمام.. فرح العجوز الجميل أن شبابا تذكروا أغنيته.. وفرح أكثر بعد علم بأنها أصبحت من تمائم هذه الثورة.. وزاد فرحة بعد ما سأل الشباب على الفيس عن ألحانه الأخرى لحمام «يا بيوت السويس يا بيوت مدينتي».. وما «بلاش».. وغيرها.. ووجد من الأجيال الجديدة من يسأل عن أغنياته على الزيبق التى لحنها للمجموعة:
قصر الوالى طبعا عالي
مليان حتى لو الكون خالي
بدهب وفاروز وكنوز فى كنوز
وإن شبعت بطنه اليد تعوز
وإن عازت يدّه السرقة تجوز
يضحك.. نبكى إحنا طوالي
أمال إزاى يبقى الوالي؟!
يفرح عم إبراهيم بمن يحدثه عن ألحانه التى صنعها من «روح الشعب» و«ريحة السيدة» لعشرات المطربين.. ويحزن لأن الناس الذين غنى لهم ولا يزال قد ينسونه فى زحمة ما يقاسونه.. لكنه مثل السيدة زينب لا يريد منهم ولا منكم سوى زيارة ولو مرة فى السنة.. كل سنة وأنت طيب يا عم إبراهيم.. ومدد يا طاهرة.. مدد.