الأربعاء 24 أبريل 2024
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي
رئيس مجلسي الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي

ملفات خاصة

محمد الباز يكتب: القرآن في مصر "20".. نصر أبوزيد.. نصير القرآن الذي قتلوه مرتين

محمد الباز ونصر أبوزيد
محمد الباز ونصر أبوزيد
تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق google news
«القرآن نص لغوى يمكن أن نصفه بأنه يمثل في تاريخ الثقافة العربية نصًا محوريًا، وليس من قبيل التبسيط أن نصف الحضارة العربية الإسلامية بأنها حضارة النص، بمعنى أنها حضارة أنبتت أسسها، وقامت علومها وثقافتها على أساس لا يمكن تجاهل مركز النص فيه». 
كانت هذه هي الفقرة الأولى في كتاب الدكتور نصر حامد أبوزيد «مفهوم النص.. دراسة في علوم القرآن».. وهو الكتاب - إلى جوار كتب ودراسات أخرى - الذي أدخل الباحث الجامعى الجاد إلى دوامة المحاكم والاتهام بالكفر والتفريق بينه وبينه زوجته الدكتورة ابتهال يونس، على اعتبار أنه لا يحق للمرأة المسلمة أن تتزوج من كافر. 
الاتهام كان عبثيًا، لكن رد الفعل لم يكن كذلك، ترك نصر كل شيء وراءه، لم يركن إلى الوطن الذي هجره، وتركه فريسة لذئاب بلا عقل ولا ضمير يفترسونه على قارعة الطريق، استقر في هولندا، حيث عمل أستاذا للدراسات الإسلامية بجامعة لايدن. 
جرت الماسأة الكبرى في حياة نصر أبوزيد في منتصف تسعينيات القرن الماضى، وبوعى كامل أستطيع أن أقول إنها مهزلة كبرى، من عملوا على إشعال نارها لم يكن في قلوبهم أي مكان لله، ولا كانت لديهم رغبة في حماية القرآن والدفاع عنه. 
كان «نصر» واحدًا ممن يكتبون ضد كهنة الدين، هؤلاء الذين يسرقون عقول الناس وأموالهم باسم الله، كان من بين هؤلاء الكهنة الدكتور عبدالصبور شاهين، كال له «نصر» نقدًا لاذعًا على خلفية وضع علمه وفقهه في خدمة رجال توظيف الأموال، ورغم ما كان يبديه شاهين من تسامح، إلا أنه لم يغفر لنصر ما فعله معه. 
جاءت الفرصة للانتقام، تقدم نصر كأستاذ مساعد في قسم اللغة العربية بجامعة القاهرة للحصول على الترقية، كانت البحوث التي تشفع بها للترقى تدور حول الفكرة الأكبر التي وهب نصر نفسه لها، وهى «نقد الخطاب الدينى»، ذهبت أبحاثه إلى لجنة الترقيات التي كان عبدالصبور شاهين من بينها. 
تميز نصر أبوزيد كباحث لا يمكن أن ينكره أحد على الإطلاق، لكن شاهين فعلها، تسبب في رفض البحوث، حيث طعن في مستواها، لكن المهم من ذلك أنه سرب تقريره إلى الصحف، وهو أمر مخالف لكل الأعراف والقيم والأخلاق الجامعية.
اتهم شاهين نصر أبوزيد في تقريره بالكفر، قال عنه نصا: «يضمر عداوة شديدة لنصوص القرآن والسنة والدعوة، ويهاجم الصحابة، وينكر المصدر الإلهى للقرآن الكريم، ويدافع عن الماركسية والعلمانية وسلمان رشدى وآيات شيطانية». 
لم يكن هذا تقريرًا علميًا على الإطلاق، بل كان مجرد تحريض، وأصبحت التهمة معلقة في رقبة نصر أبوزيد، أما التهمة فهى أنه يقول «إن القرآن نص». 
هذه السخرية كانت تلاحق جميع من عرفوا نصر، ويحكى يوسف زيدان الذي كان صديقا مقربا من أبوزيد: في مطلع التسعينيات عرفت الدكتور نصر حامد أبوزيد، المفكر المصرى اللامع الذي كان في صغره طفلا درويشا يعيش في منطقة قحافة اللصيقة في مدينة طنطا، التي قام فيها مقام السيد أحمد البدوى، الصوفى الكبير، حيث كان يعرف في بلدته أيام طفولته وشبابه المبكر باسم الشيخ نصر، ولذلك لم يصدق أهله الأولىن أي شىء مما أثير بعد سنوات طوال، من اتهامات بالإلحاد والعداء للإسلام، لا سيما تلك التهمة التي راجت أيام أزمته الشهيرة وتداولتها ألسنة الجهلاء، ونصها البائس: نصر أبوزيد ملحد يدعى أن القرآن نص». 
يواصل يوسف حكايته: أيامها قال لى أحد الأساتذة الجهلاء، كأنه يصرح بسر مهول، نصر أبوزيد له كتاب بعنوان «مفهوم النص» يقول فيه إن القرآن الكريم نص، قلت له وكنا آنذاك في ندوة حاشدة، طبعًا، القرآن الكريم نص، والحديث الشريف نص، ونحن نقول القرآن ينص على كذا وكذا، ونقول لا اجتهاد فيما ورد فيه نص، فأين المشكلة؟ قال محدثى: أستغفر الله، مفيش فايدة فيكم. 
لم تكن التهمة إذن يتداولها العامة فقط، ولكنها كانت الصيغة التي يتحدث بها أساتذة الجامعة، وخلاصتها، أن نصر أبوزيد يرى أن القرآن الكريم ليس إلا نصًا بشريًا، تم إنتاجه طبقًا لمتطلبات ومتغيرات بيئته، وهو بذلك ليس وحيًا من السماء، بل خرج من الأرض، وقال به بشر لم يتصل بالسماء مطلقًا. 
هذا ما وصل للناس، وطبيعى أن يحكموا على نصر بالكفر، أن يلعنه الخطباء في المساجد، وأن يردد المصلون خلفهم الدعاء عليه بالهلاك، كان طبيعيًا أن يظل ملعونًا طوال حياته، وحتى عندما مات في العام ٢٠١٠ ودعه الجهلاء باللعنة والشماتة. 
■ ■ ■
السؤال الذي أحاول أن أضع إجابته أمام عامة النص وليس خاصتهم هو: هل فعلًا كان هذا ما قاله نصر أبوزيد على القرآن؟
لن أجرى بحثًا مستفيضًا للإجابة عن هذا السؤال، سأستند فقط إلى مقدمة منشورة مع الأعمال الكاملة لنصر صدرت في العام ٢٠١٤ عن المركز الثقافى العربى بيروت. 
يقول كاتب المقدمة - الذي لم يوقعها - إن نصر أبوزيد بدا في مهمة شاقة جدا، يمكن التعبير عنها بأنها كانت مساءلة للنص الدينى، عمل فيها على إعادة ترتيب الوقائع النصية بما لا يتعارض مع السياق الإيمانى، متتبعا تحولات المعنى، منذ مأزق التأويل الذي وقع فيه المفسرون الأوائل للقرآن حتى اللحظة الراهنة. 
لم تكن المهمة سهلة، فحتى يفعل ذلك، كان عليه أن يواجه التفسيرات والتأويلات البشرية التقليدية للقرآن الكريم، وتقديم تصور معرفى جديد يعمل على تأويل الخطاب القرآنى في سياق تشكله التاريخى والاجتماعى. 
وعلى عكس ما يروجون عن نصر، فقد كان حريصًا إلى أبعد مدى، على عدم المس بالطبيعة الإيمانية لمصدر الخطاب القرآنى فهو لم يقل إن القرآن لم يأت من عند الله أبدًا وفى الوقت نفسه ظل يؤكد أن الإيمان بالمصدر الإلهى للنص (الله)، أمر لا يتعارض أبدًا مع تحليل هذا النص من خلال فهم الثقافة التي ينتمى إليها. 
نصر ودون لف أو دوران لم يفعل أكثر من تأسيس تاريخى لبنية الخطاب الإلهى، كشف عبره عن طبيعة القراءات الأيديولجية للنص القرآنى، بفضل قراءة نقدية تتوسل بالدرجة الأولى الأساس بمنهجية تحليل الخطاب وتفيد من مناهج السيميولوجيا، فضلا عن الإفادة من مناهج الألسنية والأسلوبية وعلم السرد، وغيرها من المنهجيات المستخدمة في دراسات العلوم الاجتماعية، وكل ذلك من أجل تقديم رؤية معاصرة للفهم القرآنى. 
يقر أبوزيد في مجمل دراساته بأن الإسلام يقوم على أصلين، هما القرآن والحديث النبوى الصحيح.. لكنه يعى في الوقت نفسه أن النصوص التي تشكل المصدرين، لم ينزلا مرة واحدة على الرسول، بل هي نصوص لغوية تشكلت خلال فترة زادت على عشرين عامًا، وهو ما يشير إلى أنها حتما تأثرت في صياغتها ومعانيها بالواقع والثقافة المحيطة بها.
كانت الفكرة الأساسية التي تمحورت حولها كل بحوث ودراسات نصر أبوزيد حول القرآن، هي وضع الخطاب القرآنى في السياق التاريخى للفعالية الاجتماعية والبشرية التي يتوجه إليها، وهو ما يستدعى مسبقا الإقرار بأن لمستقبل الخطاب الحق في فهمه من ضوء المعطيات الثقافية والتاريخية للحظة انبثاق الوحى وتنزله. 
■ ■ ■
كان هذا المدخل تحديدًا هو الذي جر على نصر أبوزيد العواصف كلها، وتحديدًا بعد أن وضعها في إطار واضح ومحدد في كتابه «مفهوم النص»، حدث هذا رغم أنه حرص وبشدة على ألا ينشأ تعارض منطقى بين ألوهية النص - أي نزوله عبر الوحى من قبل الله على رسوله الكريم - وواقعية محتواه وانتمائه إلى أفق الفهم البشرى. 
في « مفهوم النص» يرى نصر أن القرآن الكريم يصف نفسه بأنه رسالة، وبالتالى فإن الرسالة تمثل اتصالًا بين مرسل ومستقبل من خلال شفرة أو كود خاص، يمكن أن نتعامل معه على أنها نظام لغوى، ولما كان المرسل في حالة القرآن لا يمكن أن يكونا موضوعا للدرس العلمى (حاشا لله أن يكون ذلك)، فمن الطبيعى أن يكون المدخل العلمى لدرس النص القرآنى مدخل الواقع والثقافة. 
حدد نصر أبوزيد ما يقصد بالواقع، بأنه السياق الذي ينتظم البشر المخاطبين بالنص، وينتظم المستقبل الأول للنص وهو الرسول، صلى الله عليه وسلم، والثقافة التي تتجسد في اللغة. 
يميل نصر أبوزيد كذلك إلى أن كون القرآن الكريم كان منتجًا (بالفتحة) ثقافيًا في البداية، لا يعنى أنه لم يتحول إلى منتج (بالكسرة) ثقافى، نظرا إلى علاقة التفاعل الجدلى بين الخطاب والواقع، وهاتان المرحلتان لا تنطويان على إجحاف للمصدر المتعالى للخطاب الإلهى الذي دخل عبر النبى، صلى الله عليه وسلم، حيز اللغة. 
وهو يعمل على مشروعه الكبير أدرك نصر حامد أبوزيد أن المفسرين الكبار الذين سبقوه إلى دراسة القرآن وقعوا في مأزق التفسير اللفظى، وهو ما يمكننا أن نطلق عليه «التيار الحرفى في التأويل» وذلك من أجل الحفاظ على الطابع الإيمانى للقرآن، وإذا غم عليهم شىء لجأوا إلى التأويل المجازى لكل ما يتناقض مع النص القرآنى. 
تريدون أن تعرفوا شيئا عن النص عند نصر أبوزيد. 
حسنا... يمكن أن نفعل ذلك الآن. 
الكشف عن مفهوم النص في مشروع أبوزيد التأويلى يعد أمرا مركزيا تقتضيه التحولات اللغوية أو البنيوية التي طرأت ليس فقط على النص أو الخطاب القرآنى، وإنما على التأويلات المتعسفة في ادعاء احتكار اليقين، وفرض التصورات المتزمتة للنص الدينى، وعدم الاعتراف بالتطور الحضارى واستحقاقاته، وهو ما جعل النص بفعل التفسير السلفى الحرفى المحافظ، يغمر الحياة ويقدم إجابات كلية عما مضى، وما سيمضى في المستقبل غير المنظور.
أمسك نصر أبوزيد بالأزمة التي نعيشها، وتعتصرنا حتى الآن.. فهو يرى أن أحد أبرز الأسباب الأساسية التي جعلت النص الدينى يغمر الحياة ويسيطر عليها يتمثل في العقل الفقهى الذي دشنه الإمام الشافعى، عندما أسس ما أطلق عليه «سلطة النص» ومنحها قوة التداخل مع نطاقات سائر المجالات الحياتية الاجتماعية والمعرفية. 
لعب الإمام الشافعى لعبة فقهية بسيطة، لكن أثرها كان مدمرًا، فقد حول النص الشارح (اجتهاد البشر حول القرآن) إلى نص أصلى، وأضفى عليه درجة كبيرة من المشروعية، ثم وسع مفهوم النص فألحق به السنة والإجماع والعادات، وقام بربط الاجتهاد بكل ما سبق ربطا محكما. 
ماذا يعنى هذا في النهاية؟ 
يعنى أن ما فعله الإمام الشافعى عندما حول النص الشارح إلى نص أصلى وأضفى عليه قداسة، عمل على تكبيل الإنسان بإلغاء فعاليته وإهدار خبرته، والسعى إلى المحافظة على المستقر والثابت، وتكريس الماضى بإضفاء طابع دينى أزلى عليه. 
تفسير القرآن على طريقة الفقهاء والمفسرين القدامى يحنط النص الإلهى بهدف تقديسه، وهو ما أدى إلى تغذية ظاهرة التزمت في العالم الإسلامى، وظاهرة الأصولية والجماعات السلفية التي تنخرط فيما يسمى بـ«الإسلام الجهادى» الذي يوسم بـ«الإرهاب»... لأنه يستخدم أدوات عنيفة تصدر عن تصورات لاهوتية تحث على تطبيق الإسلام بحد السيف، وذلك فضلا عن تقسيم ذلك التصور الأصولى للعالم، باعتباره فسطاطين، الأول دار حرب، والثانى دار سلام، وذلك بحسب الخطاب التكفيرى الأصولى الذي يفسر بعض الآيات ويأولها تأويلًا أيديولوجيًا يخدم أغراضه السياسية ومنافعه الآنية. 
ترك نصر حامد أبوزيد كل ذلك وراءه، وذهب إلى أنسنة الخطاب الدينى، ومن بينه النص الإلهى، وتمت الأنسنة من خلال تحرير هذا الخطاب من التفسيرات التعسفية والرؤى الأسطورية التي رانت عليه، وهو ما أدى إلى نشوء ممارسات غيبية، وتاويلات تخدم السلطات السياسية، وتقدم للاستبداد والجهل مبررات بقائهما واستمرارهما وتغولهما. 
■ ■ ■
لقد خدم نصر أبوزيد القرآن الكريم كما لم يخدمه أحد، حاول جاهدا أن يخلص إلى صيغة تصل التراث الدينى بكل عناصره ومستوياته، بلحظة العيش الراهنة الآن، وكذلك بالمستقبل، لأنه يعتقد أن الانقطاع عن الماضى يعادل الإقامة فيه، وبالتالى لا بد من البحث عن آلية تقرأ الماضى، ما يجعله مستمرًا في الحاضر، ودافعًا إلى الترقى، وحافزًا على الإصلاح والتمدن. 
كان يمكن أن يمر مشروع نصر أبوزيد دون ضجة، كان يمكن أن يكتب ما يريده بشكل كامل، ثم يضعه على رف المكتبة العربية الكبير، لكن قدره أنه خاض قوى الظلام التي سعت إلى احتكار اليقين الدينى، والنطق الحصرى بلسان السماء، وعمل على تصديع المنظومة الرمزية التي يتخندق فيها أصحاب ذلك اليقين، وتشقيق التصورات الميتافيزيقية التي تسعى إلى شل إرادة الإنسان، وتحويله إلى تابع مذعن لسلطة دينية ذات مرجعيات أيديولوجية، وتطلعات سياسية تستخدم الدين لخدمة أغراضها، ولا تسعى بأى وجه من الوجوه إلى خدمة الإسلام وإبراز أفقه الإنسانى الرحب. 
انس كل ما سمعته عن نصر أبوزيد، انس أيضا كل ما قرأته عن سيرته عند خصومه، اعرف فقط أنه خدم القرآن كما لم يخدمه أحد، كان نصيرا له، في مواجهة من قرروا أن يصادروه لمصالحهم الخاصة الضيقة، ولأنهم كانوا يعرفون ذلك، لم يسكتوا عليه، قتلوه مرتين. 
الأولى عندما أخرجوه من أرضه التي كان يتمنى أن يكمل فيها مشروعه، أذلوه وجعلوا الكوابيس تطارده في أحلامه، بل إن مصر كانت تأتيه في أحلامه على هيئة كابوس، فهم لم يختلفوا معه فقط، لكن كفروه، جروده من دينه، وكانوا يريدون أن يفصلوا بينه وبين زوجته التي رفضت همجيتهم وسافرت معه، ولا تزال على العهد باقية. 
الثانية عندما اختطفه الموت، كان نصر يستحق وداعا يليق به، وداعًا يتناسب مع ما أضافه للقرآن، ما يتسق مع المدرسة الكبرى التي أسسها للدراسات القرآنية، ولها تلاميذ ومريدون، عن عمله حتى نهاية حياته، ليصبح القرآن كتابًا عالميًا بحق، فلن يكون القرآن كذلك لمجرد أننا نريده، ولكن يصبح كذلك عندما نعمل على تحريره من القيود التراثية التي تحيط به، وتكبله، لكن الوداع كان باردًا وشاتمًا ومتخلفًا ومنحطًا. 
عندما أتامل في سيرة نصر أبوزيد أتأكد تماما أننا لا نستحق أمثاله من المفكرين الكبار، خسارة فينا علمه وحياته واجتهاده.. يكفيه أنه مات وهو راض نفسه، أما جزاؤه فعند الله وحده.