الأربعاء 15 مايو 2024
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي
رئيس مجلسي الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي

آراء حرة

أوجاع علي بن أبي طالب (2)

تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق google news
لقد جمع ابن عباس ما تبقى من أموال فى بيت المال، وقدره نحو ستة ملايين درهم، ودعا إليه من كان فى البصرة من أخواله من بنى هلال، وطلب إليهم أن يجيروه حتى يبلغ مأمنه ففعلوا، وحاول أهل البصرة مقاومتهم وناوشوا بنى هلال قليلاً، ثم أقنعوا أنفسهم بترك المال عوضا عن سفك الدماء، ومضى ابن عباس بالمال، آمنا، محروسا، قريرا، هانئا، حتى بلغ البيت الحرام فى مكة، فاستأمن به، وأوسع على نفسه، واشترى ثلاث جوار مولدات حور بثلاثة آلاف دينار.
صدمة هائلة، لا لعلى فقط، بل لنا جميعا، نحن الذين عشنا عمرنا نقرأ عن فقه العباد له، وزهد العباد له، وورع العباد له، (يقصدون عبدالله بن عباس وعبدالله بن عمر وعبدالله بن جعفر بن أبى طالب)، فإذا بنا نحار فيهم، ونمسك ألسنتنا غصبا أمام أشهر العباد له، ونخشى أن نصف فعله بما يستحق فلا ننجو من الألسنة الحداد ومما هو أكثر، لكن يجب ألا نكون أرفق ببعض الصحابة من أنفسهم، ولا أقل من أن نصفهم بما وصف بعضهم به بعضا، وحسبنا أن عليا أوجز رأيه فى ابن عباس بأنه (يأكل حراما ويشرب حراما) وليس لنا إلا أن نقول مع على:
صدقت إن صدق ما قلت وحدث ما فعل، بل إننا نتساءل ومعنا كل الحق، هل الاستيلاء على أموال المسلمين بالباطل حلال على مسلم لكونه عاصر الرسول أو الخلفاء أو الصحابة، حرام علينا لأننا جئنا فى عصر بعد العصر، وعاصرنا زمانا غير الزمان؟، هى حرام عليهم بقدر ما هى حرام علينا، بل هى حرام عليهم أكثر، لأنهم يعرفون من الدين أكثر، ومتفقهون فيه أكثر، ولأنهم الأئمة والمنارة، فإذا فسد الأئمة فمن أين يأتى الصلاح؟، وإذا أظلمت المنارة فبمن نسترشد؟
ولعلى قبل أن أستطرد فى الحديث، وللحديث بقية، أتذكر أن أحد أعضاء تنظيم الجهاد، ممن اغتالوا الرئيس السادات فى المنصة، كان مشهورا عنه أنه يكحل عينيه، وعندما سئل، قال تأسيا بابن عباس، ولعله لو قرأ ما قرأناه عنه ما تأسى به وما اكتحل مثله، واقرأوا معى رسالة على لابن عباس، بعد أن استقر فى مكة، هانئا بين جواريه، قانعا بأموال المسلمين:
(أما بعد، فإنى كنت أشركتك فى أمانتى، ولم يكن فى أهل بيتى رجل أوثق منك فى نفسى لمواساتى ومؤازرتى وأداء الأمانة إليّ. فلما رأيت الزمان على ابن عمك قد كلب، والعدو عليه قد حرب، وأمانة الناس قد خربت، وهذه الأمة قد فتنت، قلبت له ظهر المجن، ففارقته مع القوم المفارقين، وخذلته أسوأ خذلان الخاذلين، وخنته مع الخائنين، فلا ابن عمك آسيت، ولا الأمانة أديت، كأنك لم تكن لله تريد بجهادك، أو كأنك لم تكن على بينة من ربك، وكأنك إنما كنت تكيد أمة محمد عن دنياهم أو تطلب غرتهم عن فيئهم، فلما أمكنتك الغرة أسرعت العدوة، وغلطت الوثبة، وانتهزت الفرصة، واختطفت ما قدرت عليه من أموالهم اختطاف الذئب الأزل دامية المعزى الهزيلة وظالعها الكبير، فحملت أموالهم إلى الحجاز رحيب الصدر، تحملها غير متأثم من أخذها، كأنك لا أبا لغيرك، إنما حزت لأهلك تراثك عن أبيك وأمك، سبحان الله!
أفما تؤمن بالمعاد ولا تخاف سوء الحساب؟ أما تعلم أنك تأكل حراما وتشرب حراما؟ أو ما يعظم عليك وعندك أنك تستثمن الإماء وتنكح النساء بأموال اليتامى والأرامل والمجاهدين الذين أفاء الله عليهم البلاد؟ فاتق الله، وأد أموال القوم فإنك والله إلا تفعل ذلك ثم أمكننى الله منك لأعذرن إلى الله فيك حتى آخذ الحق وأرده، وأقمع الظالم، وأنصف المظلوم، والسلام).
خطاب يقطر دما، ولو استقبله ابن عباس بقلب فيه ذرة من إيمان لخشع وتاب، ورجع عن فعله وأناب، لكنه يرد مستخفا فى سطرين لا أكثر فيقول (أما بعد، بلغنى كتابك تعظم علىّ إصابة المال الذى أصبته من مال البصرة، ولعمرى إن حقى فى بيت المال لأعظم مما أخذت منه والسلام).
هذه المرة يأتى الرد سافرا، نعم أخذت، لكنه حقى، بل إن حقى فيه أكثر، أى حق؟ وبأى حق؟ وهل لعبدالله بن عباس فى بيت مال المسلمين حق أكثر مما لرجل من المسلمين؟
هذا ما تساءل به على فى رده على هذا الخطاب، وهو رد بليغ وحزين لا أريد أن أشغل به القارئ فأزيده حزنا فوق حزن، لكنى أنتقل به فجأة إلى رد (برقى) آخر من ردود ابن عباس، حسم به النقاش، وأنهى به الجولة، وختم به حديث الدين والعقيدة، مهددا بسطوة الدنيا وسيفها، وسلطانها وزيفها، قائلا لابن عمه على:
«لئن لم تدعنى من أساطيرك لأحملن هذا المال إلى معاوية يقاتلك به».
تعيد «البوابة» نشر مقالات للمفكر الراحل فرج فودة علها تكون نفعاً لنا فى مثل هذه الأيام.