الجمعة 10 مايو 2024
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي
رئيس مجلسي الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي

آراء حرة

أوجاع عليّ بن أبي طالب "1"

تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق google news
هوّن عليك يا أبا الحسن، فسوف يأتى بعدك بسبعين عامًا من لا يستوعب درسك فيحاول ما حاولت، ويقضى بأسرع مما قضيت، سوف يأتى عمر بن عبدالعزيز، ولن يستمر أكثر من سنتين وثلاثة أشهر، وسوف يموت دون الأربعين، مسمومًا فى أرجح الأقوال، مخليًا مكانه ليزيد بن عبدالملك، شاعر المغانى والقيان، عاشق سلامة وحبابة، وأول شهداء العشق والغرام فى تاريخ الخلفاء.
وسوف يأتى بعد عمر بن عبدالعزيز بقرن ونصف، خليفة عباسى اسمه المهتدى بالله يحاول أن يحتذى حذوه فيأمر بالمعروف، وينهى عن المنكر، ويزهد فى الدنيا، ويقرب العلماء، ويرفع من منازل الفقهاء، ويتهجد فى الليل، ويطيل الصلاة، ويلبس جبة من شعر وسوف يكون مصيره كما ذكر المسعودى: (فـثـقلت وطأته على العامة والخاصة بحمله إياهم على الطريقة الواضحة فاستطالوا خلافته وسئموا أيامه وعملوا الحيلة حتى قتلوه، ولما قبضوا عليه قالوا له أتريد أن تحمل الناس على سيرة عظيمة لم يعرفوها؟، فقال: أريد أن أحملهم على سيرة الرسول وأهل بيته والخلفاء الراشدين، فقيل له: إن الرسول كان مع قوم قد زهدوا فى الدنيا ورغبوا فى الآخرة كأبى بكر وعمر وعثمان وعلى وغيرهم، وأنت إنما رجالك تركى وخزرى ومغربى، وغير ذلك من أنواع الأعاجم، لا يعلمون ما يجب عليهم فى أمر آخرتهم وإنما غرضهم ما استعجلوه من هذه الدنيا، فكيف تحملهم على ما ذكرت من الواضحة؟).
وقد قتل المهتدى بعد أقل من أحد عشر شهرًا من خلافته، واختلف فى قتله، فذكر البعض أنه قتل بالخناجر، وشرب القتلة من دمه حتى رووا منه، (ومنهم من رأى أنه عصرت مذاكيره حتى مات، ومنه من رأى أنه جعل بين لوحين عظيمين وشد بالحبال إلى أن مات، وقتل خنقاً؛ كبس عليه بالبسط والوسائد حتى مات)، لا تحزن يا أبا الحسن ولا تغضب، فزمانك لا شك أعظم من زمن من يليك، وحسبك أن عهدك كان فيصلًا أو معبرًا إلى زمان جديد، لا ترتبط فيه الخلافة بالإسلام إلا بالاسم، ولا نتلمس فيها هذه الصلة بين الإسلام والخلافة، إلا كالبرق الخاطف، يومض عامين فى عهد عمر بن عبدالعزيز، وأحد عشر شهرًا فى عهد المهتدى، وخلا ذلك دنيا وسلطان، وملك وطغيان، وأفانين من الخروج على العقيدة لن تخطر لك على بال، وربما لم تخطر للقارئ على بال، ما نقلوه إليه كان ابتسارًا للحقيقة، وإهدارًا للحقائق، وانتقاصًا من الحق، وإذا كان الشيء بالشىء يذكر يا أبا الحسن، فدعنا نقص على القراء ما راعك وما سيروّعهم، وما أفزعك وما سيفزعهم، وسوف ننقله إليهم موثقًا بالرسائل، تلك التى تداولتها أنت وابن عمك وأقرب الناس إليك، عبدالله بن عباس، حبر الأمة وبحرها، وأحد أكثر من نقلت عنهم أحاديث الرسول، وواليك على البصرة، أعظم الأمصار وأجلها خطرًا، ولعلك يا أبا الحسن كنت تتوقع أن تسمع عن عبدالله بن عباس أى شىء إلا ما سمعت، حين أتتك من صاحب بيت المال فى البصرة (أبو الأسود الدؤلى) رسالة ينبئك فيها أن (عاملك وابن عمك قد أكل ما تحت يده بغير علمك).
ولعلك يا أبا الحسن لم تصدق، ولعله لم يكن أمامك إلا أن ترسل لعبدالله بن عباس مستفسرًا، متمنيًا أن يحصحص الحق فيسفر عن بياض صفحته، وهو خطابك إليه مختصرًا: «أما بعد، فقد بلغنى عنك أمر، إن كنت فعلته فقد أسخطت ربك، وأخربت أمانتك، وعصيت إمامك، وخنت المسلمين: بلغنى أنك جردت الأرض وأكلت ما تحت يديك، فارفع إلىّ حسابك، واعلم أن حساب الله أشد من حساب الناس».
ويأتيك يا أبا الحسن «أما بعد، فإن الذى بلغك باطل، وأنا لما تحت يدى أضبط وأحفظ، فلا تصدق علىّ الأظناء، رحمك الله، والسلام».
ردٌّ كأنه إحدى رسائل التلكس فى أيامنا الحاضرة، وهو رد لا يغنى من جوع، ولا يسمن من شبع، فعلى قد طلب حساب بيت المال، فلم يظفر من ابن عباس إلا بنفى التهمة وبالسلام، وما عليه إلا أن يعاود الكرة، موضحًا ما يطلبه، مؤكدًا عليه، محاولا استثارة النخوة الدينية لديه، ولنقرأ خطاب علي:
«أما بعد، فإنه لا يسعنى تركك حتى تعلمنى ما أخذت من الجزية، ومن أين أخذته، وفيما وضعت ما أنفقت منه، فاتق الله فيما ائتمنتك عليه واسترعيتك حفظه، فإن المتاع بما أنت رازئ منه قليل، وتبعة ذلك شديدة، والسلام».
لم يعد الأمر اتهامًا ينفيه ابن عباس، بل طلبًا واضحًا ومحددًا، ومطلوب من ابن عباس أن يجيبه، وهو أن يكتب له (كشف حساب) يوضح فى جانب منه موارده من الجزية، وفى الجانب الآخر أوجه الإنفاق.
والحقيقة أن ابن عباس قد أجاب، وهو فى إجابته لم يذكر شيئًا عن موارده وإنفاقه، وإنما تقدم بالخصومة بينه وبين علىٍّ خطوة واسعة، ورد عليه اتهامًا باتهام، فعلىٌّ يتهمه باغتصاب المال، وهو يتهم عليًا بسفك دماء الأمة من أجل الملك والإمارة، وهكذا جريمة بجريمة، بل إن جريمة علىٍّ (هكذا قال وهكذا أفتى) أعظم عند الله من جريمته التى لم ينفها أو يعتذر عنها، ولنقرأ معًا رسالة عبدالله بن عباس إلى علىٍّ (أما بعد، فقد فهمت تعظيمك علىّ مرزئة ما بلغك أنى رزأته أهل هذه البلاد، والله لأن ألقى الله بما فى بطن هذه الأرض من عقيانها ولجينها، وبطلاع ما على ظهرها، أحب إلىّ من أن ألقاه وقد سفكت دماء الأمة لأنال بذلك الملك والإمارة. فابعث إلى عملك من أحببت».

تعيد «البوابة» نشر مقالات للمفكر الراحل فرج فودة علها تكون نفعًا لنا فى مثل هذه الأيام.