الخميس 16 مايو 2024
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي
رئيس مجلسي الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي

آراء حرة

أوراق الراشدين

تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق google news
اجتهد عمر بن الخطاب فيما هو أجـلّ وأعظم، مخالفًا ما نعرفه ونلتزم به من أنه لا اجتهاد فى النص، أو لا اجتهاد مع وجود نص، ولم يكن اجتهاده مقصورًا على التفسير أو التعديل، بل امتد إلى التعطيل والمخالفة، ولم ينكر عليه أحد من الصحابة اجتهاده، ولعلنا لا نعرف نظيرًا لعمر كرجل دين ورجل دولة على مدى التاريخ الإسلامى كله، فهو القاسى على نفسه فى الحق، ومن هنا قبلت الرعية قسوته، ثقة منها أنه على حق، وهو الزاهد فى الدنيا زهدًا لم يعرفه حاكم قبله أو بعده، ومن هنا قبل الجميع أن يحاسبهم، وأن يتحرى عن كسبهم، وأن يأخذ منهم ما يفيض عن حاجتهم، وأن يعنف عليهم أشد العنف، إن رأى فيهم أهون الميل للهوى، أو الهوى للميل، وهو الذى يخطئ فيتعلم من الخطأ ولا تأخذه العزة بالإثم.
فها هو يولى عمار بن ياسر على الكوفة، ثم لا يلبث أن يتبين أن صلاح الدين لا يعنى بالضرورة صلاح الدنيا، وأن للحكم ميدانه وللسياسة فرسانها، وليس بالضرورة أن يكونوا رجال الدين وفرسانه، فيعزل عمار، ويولى أمثال المغيرة بن شعبة ويزيد بن أبى سفيان ومعاوية بن أبى سفيان، ويرفض أن يولى أبا ذر معلنًا أمامه أن به ضعفًا، وأن الضعيف لا يولى مهما ارتفع فى سلم العقيدة درجات، فهذه ساحة وتلك ساحة، إن اجتمعتا – ونادرًا ما تجتمعان – فهو الكمال، وإن افترقتا – وغالبًا ما تفترقان – فلكل ساحة رجالها، ولكل ميدان فرسانه، فرجال السياسة أجدر بالحكم، ورجال الدين أحفظ للعقيدة، غير أن أعظم ما تركه عمر لنا، هو ذاته أكثر ما تجنبه اللاحقون، وما ارتعدوا عند ذكره، ناهيك عن الإقدام عليه، ونقصد به الاجتهاد، ذلك الذى بدأنا حديث عمر بذكره، وما تميز عمر فيه عن الجميع، حين اجتهد -كما ذكرنا – مع وجود النص القرآنى، وبالمخالفة له، وقدم فى تبرير ذلك حجة رائعة، ما أجدر المنغلقين فى زماننا أن يقفوا أمامها بالتأمل طويلًا، وما أجدرنا بأن نذكرها لهم تفصيلًا، عسى أن تتسع لها قلوبهم، ويتعلموا منها أن العقل قد يسبق النقل، وأن التفكير لا بد أن يسبق التكفير، ولعلنا نسائلهم مداعبين قبل أن نعرض عليهم ما نعرض، ما حكمكم إذا ذكرنا لكم دون تخصيص أو تفصيل أن حاكمًا مسلمًا، لدولة مسلمة، قد أفتى بمخالفة نص قرآنى مع علمه به، وطبق قاعدة مختلفة معه ومخالفة له، وأفتى بجواز مخالفة النص ذاكرًا أن واقع الحياة قد تجاوزه، وأن المنطق لم يعد يستقيم معه، ولعلنا متصورون، بل متأكدون من الإجابة، ولعلنا أيضًا هاتفون بهم حنانيكم، تمهلوا قليلًا، وتحسبوا كثيرًا، فنحن نتحدث عن عمر بن الخطاب، وهاكم النموذج كما يسرده عالم جليل، فى كتاب من أهم وأرقى ما كتب فى السنوات الأخيرة.
أما العالم فهو الدكتور عبدالمنعم النمر، وأما الكتاب فعنوانه (الاجتهاد) وأما القاعدة التى نتحدث عنها فهى خاصة بسهم المؤلفة قلوبهم، وهاكم ما كتبه الدكتور النمر:
(سهم المؤلفة قلوبهم، وهو سهم قد نص عليه القرآن الكريم فى آية توزيع الزكاة» «إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُم...» (التوبة / ٦٠).
وكان الرسول صلى الله عليه وسلم يعطيهم – وهم كفار – أو ليسوا على إسلام صحيح صادق بل متأرجحين، ليتألف بالعطاء قلوبهم – وطالما استعبد الإنسان إحسان – فيكفوا عن المسلمين شرهم، وليكسب ودهم أو لسانهم، وربما حبهم وإسلامهم. يروى سعيد بن المسيب عن صفوان بن أمية قال: «أعطانى رسول الله وإنه لأبغض الناس إليّ، فما زال يعطينى حتى إنه لأحب الخلق إلىّ».
وسار أبوبكر رضى الله عنه فى خلافته على ما سار عليه الرسول، حتى جاءه عيينة بن حصن، والأقرع بن حابس، فسألا أبا بكر: يا خليفة رسول الله إن عندنا أرضًا سبخة ليس فيها كلأ، ولا منفعة، فإن رأيت أن تعطيناها؟، فأقطعهما أبو بكر إياها، على أنهما من المؤلفة قلوبهم، وكتب لهما كتابًا بذلك، وأشهد عليه، ولم يكن عمر حاضرًا، فذهب إلى عمر ليشهد، فعارض عمر ذلك بشدة، ومحا الكتابة.. فتذمرا وقالا مقالة سيئة، قال لهما: «إن رسول الله كان يتألفكما، والإسلام يومئذ قليل، وإن الله قد أغنى الإسلام. اذهبا فاجهدا جهدكما لا يرعى الله عليكما إن رعيتما».
والشاهد هنا، أن عمر أوقف حكمًا كان مستقرًا فى أيام الرسول، وجزء من خلافة أبى بكر، بناء على اجتهاد له، فى سبب إعطاء هؤلاء، حيث اعتبر أن السبب الآن غير قائم، فلا داعى للإعطاء، والحكم يدور مع علته وجودًا وعدمًا، كما عرفنا، فعمر رضى الله عنه، لم يقف جامدًا عند حدود النص وظاهره ولا حدود الفعل، بل غاص إلى سببه وعلته، وحكم اجتهادًا منه فى فهم الحكم، على ضوء ظروف الإسلام، حين صار قويًا فى غير حاجة إلى تأليف قلوب هؤلاء.
كلام منطقى، وواضح، وصريح، يترتب عليه سؤال منطقى، وواضح، وصريح أيضًا، مضمونه: هل يجوز لنا أن نتأسى بعمر فنعطل نصًا، أو نجتهد مع وجوده، ويصل بنا الاجتهاد إلى مخالفته، إذا انعدمت علته أو تغيرت أسبابه؟.
سؤال صعب، وإجابته خطيرة، وتداعيات إجابته أخطر، ليس على الإسلام، بل على قلوب عليها أقفالها، وعقول تعرف الضبة وتنكر المفتاح، غير أنّا نلمح فى أذهانهم طوق نجاة، قد يتشبثون به، وهو قولهم بأن ذلك قد يجوز، إن تشابهت الحالة أو تماثلت مع ما سبق دون أن ينصرف ذلك إلى قواعد الدين وتعاليمه الواضحة، مثل الحدود الثابتة بيقين فى نصوص القرآن، ولعلنا بهذا القول نتفاءل كثيرًا، ونتوقع منهم ما لا نعرفه عنهم قياسًا على تجربة سابقة لنا معهم، لكن ما ضرنا إن تفاءلنا، وما خسراننا إن أحسنّا الظن، وما أجدرنا بأن نسحب منهم طوق النجاة.