الأربعاء 15 مايو 2024
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي
رئيس مجلسي الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي

آراء حرة

الحقيقة الغائبة (2)

تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق google news
من المناسب أن أناقش معك أيها القارئ مقولة ضمن وجهة نظر الداعين للتطبيق الفورى للشريعة، وهى قولهم بأن التطبيق (الفوري) للشريعة، سوف يتبعه صلاح (فوري) لمشاكله، وسوف أثبت لك أن صلاح المجتمع أو حل مشاكله ليس رهنًا بالحاكم المسلم الصالح، وليس أيضًا رهنًا بتمسك المسلمين جميعًا بالعقيدة وصدقهم فيها وفهمهم لها، وليس أيضًا رهنًا بتطبيق الشريعة الإسلامية نصًا وروحًا، بل هو رهن بأمور أخرى أذكرها لك فى حينها، دليلى فى ذلك المنطق وحجتى فى ذلك وقائع التاريخ، وليس كالمنطق دليل، وليس كالتاريخ حجة، وحجة التاريخ لدى مستقاة من أزهى عصور الإسلام عقيدة وإيمانًا، وأقصد به عصر الخلفاء الراشدين.
أنت أمام ثلاثين عامًا هجرية (بالتحديد تسعة وعشرون عامًا وخمسة أشهر) هى كل عمر الخلافة الراشدة، بدأت بخلافة أبى بكر (سنتان وثلاثة أشهر وثمانية أيام)، ثم خلافة عمر (عشر سنين وستة أشهر وتسعة عشر يوماً)، ثم خلافة عثمان (إحدى عشرة سنة وأحد عشر شهرًا وتسعة عشر يوماً)، ثم خلافة على (أربع سنين وسبعة أشهر).
وتستطيع أن تذكر بقدر كبير من اليقين أن خلافة أبى بكر قد انصرفت خلال العامين والثلاثة أشهر إلى الحرب بين جيشه والمرتدين فى الجزيرة العربية، وأن خلافة على قد انصرفت خلال الأربعة أعوام والسبعة أشهر إلى الحرب بين جيشه فى ناحية وجيوش الخارجين عليه والرافضين لحكمه فى ناحية أخرى، بدءاً من عائشة وطلحة والزبير فى موقعة الجمل، وانتهاء بجيش معاوية فى معركة صفين، ومرورًا بعشرات الحروب مع الخوارج عليه من جيشه، وأنه فى العهدين كانت هموم الحرب ومشاغلها أكبر بكثير من هموم الدولة وإرساء قواعدها.
أضف إلى ذلك قصر عهد الخلافتين، حيث لم يتجاوز مجموع سنواتهما ست سنوات وعشرة أشهر، ويبقى أمامك عهدا عمر وعثمان، حيث يمكن أن تتعرف فيهما على الإسلام والدولة فى أزهى عصور الإسلام، وأحد العهدين عشر سنين ونصف (عهد عمر)، والثانى حوالى اثنى عشر عامًا (عهد عثمان)، وهى فترة كافية لكل من العهدين لكى يقدم نموذجًا للإسلام الدولة كما يجب أن تكون، فعمر وعثمان من أقرب الصحابة إلى قلب الرسول وفهمه، والاثنان مبشران بالجنة، وللأول منهما، وهو عمر، مواقف مشهودة فى نصرة الإسلام وإعلاء شأنه، وهى مواقف لا تشهد بها كتب التاريخ فقط، بل يشهد بها القرآن نفسه، حين تنزلت بعض آياته تأييدًا لرأيه، وهو شرف لا يدانيه شرف، وللثانى منهما وهو عثمان مواقف إيمان وخير وجود، ويكفيه فخرًا أنه زوج ابنتى الرسول، هذا عن الحاكم فى كل من العهدين.
بل إنك لا تزيد إن أعلنت أن هذا العهد أو ذاك كان أزهى عصور تطبيق الشريعة، ومع ذلك فقد كان عهد عمر شيئًا وعهد عثمان شيئًا آخر فقد ارتفع عمر بنفسه وبالمسلمين إلى أصول العقيدة وجوهرها، فسعد المسلمون به، وصلح حال الدولة على يديه، وترك لمن يليه منهجًا لا يختلف أحد حوله، ولا نتمثل صلاح الحكم وهيبة الحاكم إلا إذا استشهدنا به، بينما قاد عثمان المسلمين إلى الاختلاف عليه، ودفع أهل الحل والعقد إلى الإجماع على الخلاص منه، إما عزلًا فى رأى أهل الحجة، أو قتلًا فى رأى أهل الضراب، واهتزت هيبته فى نظر الرعية إلى الحد الذى دفع البعض إلى خطف السيف من يده وكسره نصفين أو حصبه على المنبر، أو التصغير من شأنه بمناداته (يا نعثل) نسبة إلى مسيحى من أهل المدينة كان يسمى نعثلًا، وكان عظيم اللحية كعثمان، أو الاعتراض عليه من كبار الصحابة بما يفهم منه دون لبس أو غموض أنه خارج على القرآن والسنة، ووصل الأمر إلى الدعوة الصريحة لقتله، حيث يروى عن عائشة قولها: «اقتلوا نعثلًا لعن الله نعثلاً»، وهى كلها أمور لا تترك لك مجالًا للشك فيما وصل إليه أمر الخليفة قبل رعيته، وما وصل إليه أمر الرعية قبل الخليفة.
وعلى الرغم من أن عمر وعثمان قد ماتا مقتولين، إلا أن عمر قد قـُتل على يد غلام من أصل مجوسى، وترك قتله غصة فى نفوس المسلمين، وأثار فى نفوسهم جميعًا الروع والهلع لفقد عظيم الأمة، ورجلها الذى لا يعوض، بينما على العكس من ذلك تمامًا، ما حدث لعثمان عند مقتله، فقد قتل على يد المسلمين الثائرين المحاصرين لمنزله وبإجماع منهم، وقد تتصور أن قتلة عثمان قد أشفوا غليلهم بمصرعه على أيديهم، وانتهت عداوتهم له بموته، لكن كتب التاريخ تحدثنا برواية غريبة ليس لها نظير سابق أو لاحق، وإن كانت لها دلالة لا تخفى على أريب:
فالطبرى يذكر فى كتابه تاريخ الأمم والملوك الجزء الثالث ص ٤٣٩:
(لبث عثمان بعدما قتل ليلتين لا يستطيعون دفنه ثم حمله أربعة «حكيم ابن حزام وجبير بن مطعم ونيار بن مكرم وأبو جهم بن حذيفة»، فلما وضع ليصلى عليه جاء نفر من الأنصار يمنعوهم الصلاة عليه، فيهم أسلم بن أوس بن بجرة الساعدى، وأبو حية المازنى، ومنعوهم أن يدفن بالبقيع، فقال أبو جهم ادفنوه، فقد صلى الله عليه وملائكته، فقالوا لا والله لا يدفن فى مقابر المسلمين أبدًا، فدفنوه فى حش كوكب (مقابر اليهود) فلما ملكت بنى أمية أدخلوا ذلك الحش فى البقيع)
وفى رواية ثانية (أقبل عمير بن ضابئ، وعثمان موضوع على باب فنزا عليه فكسر ضلعًا من أضلاعه)، وفى رواية ثالثة أنهم دفنوه فى حش كوكب حين رماه المسلمون بالحجارة فاحتمى، حاملوه بجدار دفنوه فوقع دفنه فى حش كوكب.
هذا خليفة المسلمين الثالث، يقتله المسلمون، لا يستطيع أهله دفنه ليلتين ويدفنوه فى الثالثة، يرفض المسلمون الصلاة عليه، يقسم البعض ألا يدفن فى مقابر المسلمين أبدًا، يحصب جثمانه بالحجارة، يعتدى مسلم على جثمانه فيكسر ضلعًا من أضلاعه، ثم يدفن فى النهاية فى مقابر اليهود.
تعيد «البوابة» نشر مقالات للمفكر الراحل فرج فودة علها تكون نفعاً لنا فى مثل هذه الأيام.