الأربعاء 15 مايو 2024
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي
رئيس مجلسي الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي

آراء حرة

الحقيقة الغائبة (1)

تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق google news
هذا حديث ما كان أغنانى عنه، لولا أنهم يتنادون بالخلافة، ليس من منطلق الدعابة أو المهاترة أو الهزل، بل من منطلق الجد والجدية والاعتقاد، فسيتدرجون مثلى إلى الخوض فيما يعرف ويعرفون، ويعلم وينكرون، وينكر ويقبلون، ليس من أجلهم، ولا حتى من أجل أجيال الحاضر التى من واجبها أن تعرف وتتعرف، وتعلم وتتعلم، وتفكر وتتكلم، بل قبل ذلك كله من أجل أجيال سوف تأتى فى الغد، وسوف تعرف لنا قدرنا وإن أنكرنا المنكرون وسوف تنصفنا وإن أداننا المدينون، وسوف تذكر لنا أننا لم نجبن ولم نقصر، وأننا بقدر ما أفزعنا بقدر ما دفعنا المجتمع للأمام، وبقدر ما أقلقنا بقدر ما استقر المجتمع فى أيامهم، وبقدر ما واجهنا بقدر ما توجهوا هم إلى المستقبل. هذا حديث تاريخ وسياسة وفكر وليس حديث دين وإيمان وعقيدة، وحديث مسلمين لا حديث إسلام، وهو قبل ذلك حديث قارئ يعيش القرن العشرين وينتمى إليه عن أحداث بعضها يعود إلى الوراء ثلاثة عشر قرنا أو يزيد، ومن هنا يبدو الحديث صعبًا على من يعيشون وينتمون لواقع ما قبل ثلاثة عشر قرنًا.
وحتى لا تتحول القضية إلى تراشق فإننى سأحاول معك أن أستعرض بعضًا من موانع الخلافة المزعومة، ولنبدأ بالحاكم، وبديهى أن أول ما سيتبادر إلى ذهنك هو الشروط التى يجب أن تتوافر فيه، وقد تتصور أن الشروط سهلة، وأنها يمكن أن تتمثل فى كونه مسلمًا عاقلًا رشيدًا إلى آخر هذه الأوصاف العامة، لكنك تصطدم بشرط غريب، تذكره كثير من كتب الفقه، وهو أن يكون (قرشيًا)، وقد تتعجب من أن ينادى البعض بهذا الشرط باسم الإسلام، الذى يتساوى الناس أمامه (كأسنان المشط)، والذى لا يعطى فضلًا لعربى على عجمى إلا بالتقوى.
وقد يتبادر إلى ذهنك خاطر غريب، وإن كان صحيحًا، يتمثل فى أن هذا الشرط قد وضع لكى يبرر حكم الخلفاء الأمويين أو العباسيين، وكلهم قرشى، بل قد يتداعى إلى ذهنك ما قرأته فى كتب التاريخ القريب عن الملك فاروق فى أول عهده، حين قدمه محترفو السياسة إلى المصريين فى صورة الملك الصالح، وظهر فى الصور بلحيته ومسبحته ونصف إغفاءة من عينيه، وتسارع بعض رجال الدين (الطموحين) إلى المناداة به ملكًا (وإمامًا) للمسلمين، واجتهد الأذكياء منهم فى إثبات نسبه للرسول، وتبارى الإعلام فى الإعلان عن هذا النسب وتأكيده، تحقيقًا لشرط من شروط الإمامة، وسدًا للذرائع على المعترضين.
ولعلك مثلى تمامًا لا تستريح لهذا الشرط، الذى يصنف المسلمين إلى أصحاب دم أزرق وهم القرشيون الحكام، وأصحاب دم أحمر للأغلبية، لكنهم يواجهونك بحديث نبوى مضمونه أن الإمامة من قريش، وتتبادر إلى ذهنك فى الحال عشرات الأحاديث التى وضعها الوضاعون، والتى وصلوا فيها إلى تسمية الخلفاء العباسيين وتحديد موعد خلافتهم بالسنة واليوم، وهى كلها أحاديث وضعها من لا دين لهم سوى هوى الحكام، ولا ضمير لهم ولا عقيدة، لكنك فى نفس الوقت تخشى من اتهامك بالعداء للسنة، خاصة من الذين قصروا دراستهم للأحاديث النبوية على أساس السند وليس على أساس المتن (أى المعنى والمضمون ومدى توافقه مع النص القرآني).
ولا تجد مهربًا إلا بتداعيات اجتماع سقيفة بنى ساعدة فى المدينة، والذى اجتمع فيه الأنصار لانتخاب سعد بن عبادة، وسارع أبو بكر وعمر وأبو عبيدة الجراح إليهم ورشحوا أبا بكر، ودار حوار طويل بين الطرفين، انتهى بمبايعة أبى بكر، وأنت فى استعراضك للحوار، لا تجد ذكرًا للحديث النبوى السابق، وهو إن كان حديثًا صحيحًا لما جرؤ سعد بن عبادة سيد الخزرج على ترشيح نفسه، ولكفى أبا بكر وعمر والجراح مؤونة المناظرة، ولما فاتهم أن يذكروه وهو فى يدهم سلاح ماض يحسم النقاش، ويكفى أن تعلم أن سعد بن عبادة ظل رافضًا لبيعة أبى بكر إلى أن مات، ولم يجد من يأخذ بيده إلى هذا الحديث فيبايع عن رضا، وهو الصحابى الجليل ذو المواقف غير المنكورة فى الإسلام، غير أن لكل ظاهرة سيئة وجهها المفيد، فقد انبرى أصحاب الرأى الآخر، الذين يؤمنون بحق الأكفأ فى الحكم دون اعتبار لنسبه إلى ذكر أحاديث مضادة بمنطق «وداوها بالتى كانت هى الداء»، مضمونها أنه لا مانع من أن يحكم المسلمين عبد حبشى أسود (كأن رأسه زبيبة) فأعادوا للمنطق توازنه، وأعطوا لكثير من الطوائف الإسلامية التى نشأت فيما بعد سندًا لرأيهم المعارض لخلافة العباسيين، وإن كانت نتيجة ذلك كله، وضع المانع الأول فى مسيرة الدولة الإسلامية، وهو الخلاف الفقهى حول نسب الحاكم، وهل يكون بالضرورة قرشيًا أم أنه الأكفأ بغض النظر عن نسبه، ولا عبرة هنا بالمنطق أو بواقع الحال، فسيف إنكار الحديث وارد على رقاب كل من الطرفين، فى قضية أتصور أنا وأنت أنها هينة سهلة، لا تستحق عناء ولا تقتضى طول بحث، ولا تنتقل منها أو تتجاوزها إلى أسلوب تولية الحاكم حتى تكتشف مانعًا ضخمًا يدور حوله الجدل إلى اليوم، ولا يقنع المتجادلون فيه بمنطق بسيط وواضح، وهو أن القرآن لم يترك قاعدة فى هذا الأمر، والرسول لم يعرض لها من قريب أو بعيد، وإلا لما حدث الخلاف والشقاق فى اجتماع السقيفة، ولما رفض على قبول تولية أبى بكر ومبايعته على اختلاف فى الرواية بين رفضه المبايعة أيامًا فى أضعف الروايات وشهورًا حتى موت فاطمة فى أغلبها، بل إن أسلوب السقيفة لو كان هو الأصح لاتبعه أبو بكر نفسه، وترك تولية من يليه إلى المسلمين أو أهل الحل والعقد منهم، وهو ما لم يفعل حين أوصى لعمر بكتاب مغلق بايع عليه المسلمون قبيل وفاته دون أن يعلموا ما فيه، وهو أيضًا مرة أخرى ما خالفه عمر فى قصر الاختيار بين الستة المعروفين، وهم على وعثمان وطلحة والزبير وابن عوف وسعد، وهو ما اختلف عن أسلوب اختيار على ببيعة بعض الأمصار، ومعاوية بحد السيف، ويزيد بالوراثة.
أنت هنا أمام ستة أساليب مختلفة لاختيار الحاكم، يرفض المتزمتون تجاوزها، ويختلفون فى تفضيل أحدها على الآخر، ويرى المتفتحون أن دلالتها الوحيدة أنه لا قاعدة، وأن الإسلام السمح العادل لا يرفض أسلوب الاختيار بالانتخاب المباشر أو غير المباشر، وهو ما لا أظن أنه كان يومًا، حتى يومنا هذا محل اتفاق أو قبول عام من أنصار الدولة الدينية.
تعيد «البوابة» نشر مقالات للمفكر الراحل فرج فودة علها تكون نفعاً لنا فى مثل هذه الأيام.