الخميس 16 مايو 2024
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي
رئيس مجلسي الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي

آراء حرة

الشائعات والطلقات

تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق google news
للإرهاب أنياب ومخالب، تتمثل فى إطلاق الشائعات الكاذبة المدروسة، والتى تمثل - إذا استعرنا أسلوب حرب العصابات - ستار الدخان الذى يحمى الإرهابيين سواء فى إقدامهم على الفعل، أو فى هروبهم بعده، بأقل قدر من الخسائر، وبأكبر قدر من تجميد وتحييد الاستنكار الشعبى، ولست أدرى تحت أى مبرر دينى تبرر الجماعات الإسلامية هذا الأسلوب؟، ولست أدرى أيضًا كيف لم يتنبه أحد إلى أنها أصبحت سمة أساسية للعمليات الإرهابية فى السنوات الأخيرة، وكيف لم تصل درجة التنبيه إلى دراسة كيفية مواجهة هذه الشائعات، إعلاميًا وسياسيًا وأمنيًا، لأنها فى النهاية لا تقل خطرًا عن البندقية فى كل الأحيان وترتبط بها ارتباطًا وثيقًا فى أغلب الأحيان؟، ولعل أوضح مثال على ذلك، ما شيع عقب محاولة اغتيال أبوباشا، من أنه رمى بالمصحف على الأرض ثم داسه بالأقدام، والغريب أن هذه الشائعات، لاقت صدى واستجابة ليس فقط بين البسطاء، بل أيضًا بين كثير من أصحاب المستوي التعليمى المرتفع، حيث استمعوا إليها دون أى استعداد للمناقشة وربطوا بينها وبين الحادث.. فأرحوا أنفسهم من عناء التفسير والتبرير، وأعادوا ترديدها هم أنفسهم دون تفكير، وكانت النتيجة أن رد الفعل الشعبى فى استنكار إرهاب الحادث، كان أقل مما هو متوقع بكثير.. ولعلنا نتذكر شائعة مماثلة، وقت أن تحركت الجماعات الإسلامية ضد عميد طب القاهرة، وأشاعوا أنه نزع النقاب بيده من على وجه الطالبة، وهو ما نفته الطالبة نفسها، لكن ذلك لم يمنع الهياج والتهييج، والمظاهرات والاحتجاجات، وشغل الرأى العام شهورًا، وقريب منه ما حدث فى نفس الكلية، فى سنة سابقة حيث أقيمت حفلة دعيت إليها «فرقة المصريين» بقيادة هانى شنودة، وأشاعت الجماعات أن هذه الفرقة متخصصة فى تمزيق المصاحف إلى صفحات متناثرة، ينثرونها على أرض المسرح، بينما يرقصون و«يدبدبون» بأرجلهم فوقها خلال الغناء، يقودهم فى ذلك رئيس الفرقة «هانى شنودة»، ووقتها اضطرت إدارة الكلية إلى إقامة الحفل تحت حراسة الأمن المركزى.
وإذا كان الشىء بالشىء يذكر، فلا بأس أن أسرد على القراء تجربة شخصية لى خلال الانتخابات الأخيرة، حيث رشحت نفسى فى إحدى دوائر القاهرة، وفوجئت بمنشور يوزع منه عشرات الآلاف عقب صلاة الجمعة، ولا يحمل توقيعًا يشير إلى الجهة التى أصدرته، ويتصدر اسمى بصفتى مرشحًا عن الشيوعية «الملحدة» والعلمانية «الكافرة» والإمبريالية «العالمية» وربيبتها الصهيونية «النجسة» وللقارئ أن يتعجب من تجمع هذه المتناقضات فى شخصى المتواضع، لكن الأعجب هو ما تضمنه المنشور من عبارات نسبت إلىّ من نوع «سيدنا الحسين عديم الإحساس، الإسلام دين رجعى، أستاذى ماركس الشيوعى الملحد وداروين اليهودى المتعصب وفرويد اليهودى الكافر»، وحتى يوحى من كتبوا المنشور بأن ما كتبوه صحيح ذكروا أمام كل عبارة رقم الصفحة ورقم السطر، مع الإشارة إلى اسم الكتاب بعبارة الكتاب الأول أو الكتاب الثانى.. إلخ دون ذكر اسم الكتاب، والفكرة أو الإشاعة، ذكية ومحسوبة، ففى مواجهة مائة منشور، لن يوجد أكثر من مائة كتاب لدى سكان الدائرة، وحتى من يملك الكتاب، يمكن أن يتصور أن عبارات المنشور قد وردت فى كتاب آخر، وللوهلة الأولى لم أعر هذه المنشورات انتباهًا، وكان تعليقى أنه ما دام لم يوقع عليها أحد، فإن أحدًا لن يصدقها، كما أن العبارات الواردة فيها شديدة البلاهة، بما يتجاوز بكثير إمكانية أن يصدقها أحد، وللأسف الشديد، فإن تقديرى كان مخطئًا، وللأسف أيضًا فوجئت فى مساء نفس اليوم الذى وزع فيه أول منشور، بعودة المكلفين بتوزيع منشورات دعايتى الانتخابية، طالبين إعفاءهم من هذه المهمة بسبب ما يواجهونه من هجوم من أبناء الدائرة بسبب المنشور المعادى، واضطررت إلى طبع منشوردين للرد والتفنيد، ثم إلى طبع منشور ثالث أعلنت فيه عن جائزة قدرها خمسمائة جنيه لمن يجد حرفًا مما نشر فى المنشور فى أى كتاب لى، واضطررت إلى بيع الكتب بنصف الثمن، دون أن أنجح فى استئصال تأثير الشائعة، ولست فى حاجة إلى توضيح الصلة بين حرب الشائعات والإرهاب، فهى صلة واضحة ووثيقة، فالشائعات هى المدخل الآمن لتنفيذ العملية الإرهابية ولو قدر للمتطرفين أن ينشئوا مدرسة للإرهاب، لكان الدرس الأول فيها لا تتسرع بإطلاق الرصاص وابدأ أولًا بإطلاق شائعة، وتعمد أن تكون فجة ومثيرة، وأساس الشائعات أن تتهم الضحية بتمزيق المصحف أو بدهسه بالأقدام، أو بأنه شتم سيدنا الحسين، أو بأنه يتباهى بالكفر والإلحاد، أو بأنه شتم الدين الإسلامى، وسوف تنتشر الشائعة كالنار فى الهشيم، وبعدها لك أن تقدم آمنًا مطمئنًا على إطلاق النار، وسوف تجد طريقك ممهدًا، وإرهابك مؤيدًا، فأنت أمام الرأى العام مدافع عن الإسلام، ومنتقم ممن داس المصحف بالأقدام، وشتم سيدنا الحسين، ولعل القارئ مندهش معى من قابلية الجمهور لتصديق هذه النوعية من الشائعات الفجة، ولعله يتساءل كما أتساءل عن السبب وهل هو انتشار أمية القراءة والكتابة، أم انتشار الأمية الثقافية، أم التدريب الطويل للرأى العام على أسلوب التفكير أحادى الاتجاه، الذى يقبل ما يلقى إليه بالتصديق، ويرفض أن يمحص ما يعرض عليه، أو يخضعه للمنطق والتحليل؟، أم أنه تقصير أجهزة الإعلام فى التصدى للشائعات بالتفنيد، وأنا أقصد هنا الشائعات ذات التأثير العام، ومن أمثلتها حملة الشائعات التى سبقت جميع حوادث الفتنة الطائفية فى مصر، مثل شائعة الدعوة لإنشاء دولية قبطية، وقيام الأطباء الأقباط بتعقيم النساء المسلمات قبل حوادث الزاوية الحمراء، وشائعة الصلبان على ملابس المحجبات قبل حوادث الصعيد وكفر الشيخ الأخيرة، وليس للقارئ أن يتصور أن جميع الشائعات الممهدة للإرهاب من نوع شتم الإسلام أو شهدت نموذجًا جديدًا للشائعات، يتمثل فى الشائعات المدروسة، التى تستهدف نتائج محددة، وتستند إلى دراسة نفسية لاتجاهات الرأى العام، وما يمكن أن يؤثر فيه، وتخلق الإطار النفسى الملائم لقبول عمليات إرهابية فى مرحلة لاحقة، ومثل هذه الشائعات يصعب علىّ أن أتصور أنها من صنع خيال أفراد، والأقرب والأدق أن تكون من صنع أجهزة متمرسة، تضع الشائعة المركبة فى عدد محدود من السطور، وتتركها لكى تختمر بعد شهور، ثم يحدث المحظور، ولولا ضيق المجال، لأثبتّ أن كل حادث إرهابى وقع فى مصر، سبقته حملة الشائعات، وأن حوادث الإرهاب الموجهة ضد الأمن القومى المصرى، قد تم التمهيد لها بهذا النوع من الشائعات المدروسة.
تعيد «البوابة» نشر مقالات للمفكر الراحل فرج فودة علها تكون نفعاً لنا فى مثل هذه الأيام.