رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي
رئيس مجلسي الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي

آراء حرة

بدايات الآلة الحاسبة علامة في تاريخ العلم

تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق google news
عرضنا فى مقال سابق لجهود شارلز باباج، وكيف كان حلم حياته أن يتوصل إلى آلة حاسبة تستطيع إجراء العمليات الحسابية بأسرع مما يستطيعه البشر، وأن تقوم بعد ذلك بطباعة النتائج.
واضطر باباج بعد مضى ١٠ سنوات إلى التخلى عن مشروع آلة الفروقات نظرا لارتفاع التكلفة إلى حد دفع الحكومة إلى توقفها عن دعم المشروع. وذكر أحد الحكوميين الرسميين الإنجليز أنه إذا ما اكتمل تصنيع تلك الآلة فينبغى «أن يكون أول ما يطلب منها أن تحسب حجم الأموال التى أنفقت على بنائها».
وتحول اهتمام باباج إلى تصميم آلة أكبر حجما أطلق عليها «الآلة التحليلية». ويمكن برمجة هذه الآلة باستخدام كروت مثقبة ولها ذاكرة مستقلة فضلا عن إمكانية معالجة البيانات، وكذلك يمكن للآلة طباعة النتائج مبوبة. وتشبه تلك الآلة التحليلية «آلة الحسابات الرقمية متعددة الأغراض» ولكن تلك الآلة لم تر النور قط نظرا لعجز التمويل. لقد تحاشت الحكومة المشاركة فى مشروعات باباج مرة أخري.
كانت آدا كونتيسة لافلاس (١٨١٥ – ١٨٥٢) واحدة من أخلص الداعمين لباباج، وواحدة من القلائل الذين استوعبوا كيفية عمل الآلة. لقد كانت فلتة عبقرية فى مجال الرياضيات وهى فى سن الثامنة عشرة. كان باباج يقول عنها «إنها أكثر من حاز إعجابى من بين من نقلوا عني». لم يكن مألوفا فى ذلك الوقت بالنسبة لامرأة أن تدرس الرياضيات؛ باعتبار أن النساء لا يستطعن التعامل مع تلك المادة الصعبة. لقد تابعت آدا لافلاس دراستها سرا لأن النساء لم يكن مسموحا لهن بالحصول على درجات جامعية.
ولقد نشرت شرحا واضحا لكيفية عمل الآلة الحاسبة، كما كتبت أيضا عن آفاق استخداماتها فى المستقبل، وكانت آدا أول من اكتشفت الحدود الأساسية لآلة «التفكير»: إنها لا تستطيع خلق أو ابتكار أى شيء جديد اعتمادا على إمكاناتها، إنها لا تستطيع سوى القيام بما تمت برمجتها للقيام به فحسب.
ولعله من الجدير بالإشارة أن باباج لم يشر قط بوضوح إلى أن الماكينة التى ابتكرها يمكن أن تفكر؛ غير أنه لم ينكر على الآخرين تبنيهم لتلك الفكرة. وقد لاحظ أحد المؤرخين أن باباج قد أشار كثيرا إلى أن آلته يمكن أن تكون بديلا لبعض أنواع النشاط العقلى كأداء الحسابات الرياضية بأسرع مما يستطيعه البشر.
أصبح باباج محبطا بعد أن عجز عن الحصول على تمويل لبحوثه. وبعد الرحيل المبكر لآدا لافلاس، التى وافتها المنية وهى لم تزل فى الثلاثينات، تزايد إحساسه بالمرارة والتعاسة. ونقل عنه قوله إنه لم يعرف طيلة حياته يوما سعيدا قط. كان «يكره البشرية بأسرها، ويكره الإنجليز بصفة خاصة، والحكومة البريطانية وعازفى الأورج المتجولين أكثر من كراهيته للجميع»، وقد أدت المعركة التى أثارها مع عازفى الأورج وغيرهم من الموسيقيين المتجولين، إلى الإساءة إلى سمعته كثيرا بين سكان لندن الذين اعتبروه شاذا، وأطلقوا عليه «المعتوه». لقد أرسل العديد من الخطابات إلى الجرائد يشكو فيها من أن الضجيج المزعج الذى ينبعث من الشوارع يكبح قواه العقلية ويشوش على استغراقه فى بحوثه.
وفوق كل ذلك فقد اعتقد باباج أن جهوده فى سبيل تطوير آلة حاسبة قد تبددت دون طائل، وأهمية ما قدمه لن تلقى تقديرا قط. وعلى أى حال، فقد حصل باباج فى النهاية على اعتراف كبير بقيمة ما قدمه. ففى عام ١٩٤٦، حين تم تطوير أول جهاز كمبيوتر بجامعة هارڤارد أشار أحد رواد علم الحاسبات إلى أن هذا الإنجاز إنما هو تجسيد لحلم باباج. وفى عام ١٩٩١، وبمناسبة الاحتفال بذكرى مرور ٢٠٠ عام على مولد باباج، قام فريق من العلماء البريطانيين ببناء نموذج مماثل لواحدة من الآلات التى حلم باباج ببنائها، اعتمادا على رسوماته الأصلية. كانت الآلة تتكون من ٤٠٠٠ جزء وتزن ثلاثة أطنان ويمكنها إجراء الحسابات بدقة فائقة.
إن تشارلز باباج الذى جسد فى القرن التاسع عشر فكرة أن البشر إنما يعملون كما لو كانوا ماكينات، كان سابقا لعصره بحق. لقد كانت آلته الحاسبة التى جسدت أول محاولة ناجحة لمحاكاة الوظائف المعرفية البشرية، وتطوير شكل من أشكال الذكاء الاصطناعي، بمثابة البداية المبكرة للكمبيوتر الحديث. لقد كان العلماء والمخترعون فى عصر باباج يتنبأون بأنه لن تكون هناك حدود لما يمكن أن تقوم به تلك الماكينات من أعمال تشبه أعمال البشر.