الأربعاء 15 مايو 2024
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي
رئيس مجلسي الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي

آراء حرة

التعذيب والإرهاب

تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق google news
هناك مقولة شائعة، تحتاج إلى مراجعة وهى من كثرة ما شاعت، كادت تصبح من المسلمات، والمقولة تذكر أن الإرهاب السياسى الدينى كان نتيجة مباشرة للتعذيب فى سجون عبدالناصر، والمحتجون بذلك يدللون عليه بأن فكرة تنظيم التكفير والهجرة قد اختمرت فى ذهن شكرى مصطفى تحت جلدات السياط، وأن كتاب سيد قطب الصغير الشهير «معالم فى الطريق» والذى وضع الأساس النظرى لفكر أغلب الجماعات الإسلامية، قد كتب أغلبه فى هذه السجون، والحجة للوهلة الأولى قد تبدو وجيهة، لكن محاولة التعامل معها بالمناقشة والتحليل قد تثبت العكس، وقد تقود إلى نتيجة مختلفة، فلو جاز لنا أن نسلم بما سبق، فكيف يمكن لنا أن نبرر حوادث الإرهاب السياسى الدينى فى نهاية الأربعينيات، وهى حوادث شديدة العنف، متوالية الحدوث، متصاعدة التأثير؟ كيف نبرر اغتيال الخازندار، ومحاول نسف محكمة الاستئناف، وانفجار السيارة الملغومة فى شركة الإعلانات الشرقية، وإلقاء القنابل على أقسام البوليس، وانفجارات سينما مترو وشيكوريل وحارات اليهود، وأخيرا اغتيال رئيس الوزراء والداخلية، المرحوم محمود فهمى النقراشى مثلا؟ هل نبرر ذلك كله بالتعذيب على يد النقراشى مثلا؟ إن أحدًا لا يقبل ذلك، ولا يملك أن يدعيه، بل إن القصص التى تحكى لنا عن السجون السياسية تعز على التصديق، فقد كانت فى غاية الراحة والنظافة واحترام الآدمية، وكان يسمح فيها فى بعض الأوقات بخروج المسجونين لعيادات الأطباء أو لممارسة واجبات الزوجية، ناهيك عن مصروف جيب شخصى كان يصرف لكل فرد منهم، أى تعذيب كان هناك، حتى يبرر قتل الخازندار والنقراشى وغيرهما من الأبرياء؟ وإذا صدقنا ما ادعوه عما حدث لهم بعد مصرع النقراشى من ضغوط أو حتى تعذيب فى عهد إبراهيم عبدالهادي، فهل يصلح ذلك سببًا مباشرًا أو غير مباشر لمحاولة اغتيال عبدالناصر، الذى احتضن تنظيم الإخوان المسلمين دونا عن الأحزاب السياسية جميعًا، والذى أقسم أمام قبر حسن البنا على الانتقام له، والذى حاكم عبدالهادى على تعذيبه للإخوان، وحكم عليه بالإعدام ثم خففه إلى المؤبد؟ إن الإرهاب السياسى الدينى قد بدأ مع نشأة الإخوان المسلمين، حيث كانت البيعة تتم على المصحف والمسدس وقد ذكر ذلك المرشد العام أبوالنصر فى مذكراته المنشورة بجريدة الأحرار، بل أشار إلى أن حسن البنا قد لمعت عيناه وسعد سعادة بالغة حين أخرج أبوالنصر مسدسه، مؤكدًا له أن المسدس هو الحل والمراجع لاعترافات عبدالمجيد حسن قاتل النقراشي، ينزعج أشد الانزعاج، لما سرده عن دروس الوعظ فى التنظيم السري، وكيف درس لهم الفقهاء أن الاغتيال السياسى سنة، وأن دليلهم على ذلك قتل كعب بن الأشرف والشاعرة العصماء والشاعر أبوعصمت وحاشا لله أن يكون ذلك صحيحا، وأن من يحتج عليهم بآية «ولا تقتلوا النفس التى حرم الله إلا بالحق» كان الرد عليه أن هذا «وأيم الله» هو الحق، ومن لا يصدق، عليه أن يرجع إلى اعترافات عبدالمجيد، وإلى حيثيات الحكم فى القضية.
نشأة الإرهاب إذن مرتبطة بعقيدة التنظيم السرى وليس بالمناخ السياسى السائد، وتوقيت النشأة مرتبط بتوقيت نشأة التنظيم، وتعذيب عبدالناصر لهم لم يكن سبب النشأة، وتوقيته لم يكن مبتدعًا، وسيد قطب مارس دور منسق الحدائق، لحديقة يانعة ومثمرة، قطوفها دانية، وثمرها ناضج، وزهورها حمراء قانية، تسر الإرهابيين، وتزعج من له قلب مفعم بحب الدستور، أو ألقى السمع لنصوص القانون.
وإذا كنا نتحدث عن حقائق موضوعية، بصرف النظر عن تقييمنا لها، فلا بد أن نعترف بأنه بجانب سيد قطب وجماعته، وشكرى مصطفى وجماعته، كان هناك من خرج من هذه السجون، وقد ودع الإرهاب إلى غير رجعة، وتضاءلت أحلامه فى إرهاب الدولة بعد أن ذاق إرهابهم، وأصبح يفزعه صوت «بمب» الصغار، بعد أن كان يتسلى برمى القنابل على الكبار، ولماذا نذهب بعيدا وأمامنا نماذج حية من زعماء هذا التيار الآن شاء قدرهم أن يعتقلوا مرة واحدة بحجة انتمائهم للإخوان، وخرجوا بعدها وقد خلعوا الجبة والعمامة والقفطان، وانطلقوا بالملابس الإفرنجية، يلقون الخطب الرنانة فى المناسبات القومية، وينشدون الأشعار الثورية، وأما الآن فقد عادوا إلى زيهم القديم، معلنين أنها كانت تقية، لاعنين ثوار الشياطين يقصدون رجال الثورة، وأذكر أن صديقا يعرف تاريخ أحدهم القديم، داعيه بسؤال لئيم، عما يفعله لو عاد عبدالناصر من الموت فأجابه ببديهة حاضرة، ودعابة ساحرة، سألزم السكوت وارتدى الردنجوت.
هذا نموذج من نماذج، ونتيجة من نتائج، بيد أنى أحذر القارئ من أن يتصور أننى أدافع عن القمع، أو أحبذ التعذيب، بل إننى أربأ بالقارئ من أن يخطر ذلك له على بال، فأنا أفعل شيئا آخر، ربما لم يتعوده القراء، وهو عرض وجهى الحقيقة، أو جانبى العملة، بينما تعود أغلبنا أن يفكر فى اتجاه واحد، أو يكتب متبنيا رأيا مسبقا، أو ملتزما بمنهج محدد سلفا، بل إننى استطرد فأقول، إن تنامى ظاهرة التطرف العنيف المتسربل زوروا بشعارات الدين، والمهدد للنظام العام للمجتمع على يد الملتحين، يرجع إلى تهاون الدولة فى مواجهتهم، وليس إلى التجاوز فى التصدي، والشواهد على ذلك قائمة وجلية، ودونكم وضع اليد على حدائق القاهرة، وبناء المساجد فيها، رغم أنف السلطة والقانون والنظام والجمال، ودونكم أيضًا صب أعمدة الخرسانة فى ترع الرى الرئيسية وبناء المساجد عليها، وكلا الأمرين ليس من الإسلام، والتخطيط من الإسلام، ومنفعة المواطنين إسلام، وليس من الإسلام فى شيء أن تحرم المواطنين من متعة راحة النظر، وانشراح الصدر، والترويح عن المرضى بالمنتزه المحيط بضريح النقراشي، والمواجه لمستشفى دار الشفاء، والذى تحول إلى مسجد خرسانى ضخم.
تعيد «البوابة» نشر مقالات للمفكر الراحل فرج فودة علها تكون نفعاً لنا فى مثل هذه الأيام.