الإثنين 13 مايو 2024
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي
رئيس مجلسي الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي

آراء حرة

محاولة لمراجعة كشف الحساب

تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق google news
كنت أنوى أن أستأنف حديثى عن الجذور الفكرية لاختراع الآلة الحاسبة؛ ولكن ما جرى فى محافظة المنيا مؤخرا؛ شدنى إلى حقيقة أننى أقترب من الثمانين؛ ولعله الوقت المناسب ليقف المرء مراجعا كشف حسابه العلمى والأكاديمى والوطني؛ معترفا بأن المراجعة الحقيقية الموضوعية سوف تكون مهمة آخرين يوما ما. من بين ما يزيد على ٥٠ فرعا من فروع علم النفس، أوقعنى حظى العاثر فى أشد تلك التخصصات التهابا وهو علم النفس السياسى، ذلك الفرع من فروع علم النفس الذى يقع على منطقة التماس بين علم النفس والسياسة، يتفاعل مع السياسة أخذا وعطاء. ينقل من السياسة لبقية فروع علم النفس الأرضية التاريخية السياسية اللازمة لفهم وتفسير نشأة وتطور وذبول النظريات والتطبيقات النفسية، وينقل إلى السياسة من التقنيات والنظريات النفسية التى تساعد الساسة على تفسير الظواهر السياسية، وتنفيذ الخطط السياسية فى الحرب والسلم على السواء. ومن ثم فإن لعلم النفس السياسى دورًا فى تزويد صاحب القرار بما يلزمه من بيانات موضوعية تتعلق باتجاهات الرأى العام المحلى والعالمى، الراهنة والمتوقعة، ويلعب علم النفس السياسى أيضًا دورًا أساسيًا فى مجال إدارة الأزمات الداخلية والخارجية بما يتيحه لصاحب القرار وللجمهور من معلومات تتعلق برؤية الجماهير فى الداخل والخارج لطبيعة الأزمة، وتوقعاتهم لمسارها، مما يسهم فى ترشيد قرارات إدارتها؛ فضلا عن أن المشتغل بعلم النفس السياسى ينبغى أن يكون فى مقدمة مهامه التقاط وتفسير النذر الأولى التى تنبئ بأن ثمة انفجارا متوقعا، أو بعبارة أخرى ضرورة توافر عيون وآذان سيكولوجية لالتقاط تلك النذر مما يسهم فى توفير الكثير من الجهد، والخسائر البشرية، لو تمت القراءة المبكرة لنذر انفجار الصراعات دون انتظار ظهورها على شاشات التلفزيون بعد انفجارها بالفعل. إنه تخصص يضع صاحبه مباشرة فى خضم أحداث سياسية اجتماعية ساخنة. صحيح أننى اخترت ذلك التخصص منذ أواخر الستينات عن وعى وإصرار، مدفوعا بتاريخ شخصى لا أملك منه فكاكا، وارتباط وطنى بالصراع العربى الإسرائيلى لم أستطع التخفف منه، فضلا عن هموم ضاربة الجذور بالهوية الدينية بتأثير نشأتى فى حى شبرا. ولقد حاولت ما وسعنى جهدى وعلمى أن أقوم بما يفرضه على تخصصى بأن أكون بمثابة نذير بالشرر قبل أن يصبح نارا، ربما أخطأت فى كثير أو قليل من تلك التوقعات ولكنى كنت دوما أرجو الخير لوطنى. نبهت مبكرا لمخاطر التهوين والتهويل من الخطر الإسرائيلى، ومن مخاطر الانزلاق دون تبصر فى غواية مقاطعة إسرائيل، ومن مخاطر انقسام المقاومة الفلسطينية إلى قوى وطنية وأخرى إسلامية، وكذلك إلى مخاطر الفتنة الطائفية التى كتبت عنها مطولا وتفصيلا، والتى هى موضوعنا اليوم. منذ ما يقرب من ربع القرن أو لعله يزيد قليلا كتبت عن زيف وخطورة التمسك الشكلى بمصطلح مراوغ هو الدعوة إلى احترام العقائد؛ وكتبت عن الفتنة الطائفية باعتبارها تعبيرا عن صراع الجماعات المهددة؛ وكتبت طويلا وتفصيلا عن الفرق بين التدين الهش والتدين المطمئن، وكتبت عن صناعة الفتنة الطائفية وكيف أنها صناعة قديمة فى مصر، وكتبت كثيرا عن عبثية محاولة سجن الكلمات ووهم القضاء على الأفكار. كتبت كثيرا وحاضرت كثيرا وشاركت فى العديد من الندوات حول تلك المواضيع، وتوالت إنذاراتى منبهة لمخاطر قادمة أرى نذرها. وأخيرا جاءت واقعة ما أطلق عليه فتنة قرية «الكرم» بمحافظة المنيا، والتى ترجع إلى انتشار شائعة بوجود علاقة بين شاب مسيحى وسيدة مسلمة أدت إلى سلسلة من الجرائم البشعة سالت فيها دماء وأحرقت منازل وانتهكت حرمات. لم تحدث تلك الواقعة فجأة بل سبقتها سلسلة طويلة ممتدة من الوقائع والنذر حذرت منها جميعا فى وقتها وفقا للأصول العلمية والالتزام القومى، ولم تمض سوى أسابيع قليلة على التحذير الأخير بشأن واقعة جرت أيضا بمحافظة المنيا بشأن مديرة مدرسة تم إلغاء قرار نقلها نظرا لاعتراض التلاميذ على ديانتها المسيحية؛ وطالبت وقتها بسرعة دراسة الجذور المسببة لتلك الواقعة. كنت على ثقة دوما بأننى بتحذيراتى لا أعيد اختراع العجلة؛ ولا آتى بجديد غير مسبوق؛ بل كنت على يقين –ومازلت- أن من بين المقربين من السلطة من قد يفوقنى علما بقواعد التنبؤ العلمى بسلوك البشر؛ وذلك ما يجعل السؤال أكثر تعقيدا؛ ويجعل إجابته أكثر صعوبة. لقد توالت تحذيراتنا من نذر تعبر عنها رسائل صناع تلك الفتن الطائفية إلى أصحاب سلطة ٣٠ يونيو: «مخطئ من يظن أن شيئا قد تغير، ها نحن كما نحن قاعدون متربصون متعصبون فانظروا ما أنتم فاعلون»؛ ومع ذلك ظل الحال كما هو عليه: مواجهة شرسة للإرهاب المسلح بالرصاص؛ وسعى بطيء خجول لمواجهة المنابع الفكرية لذلك الإرهاب.
والسؤال الذى يلح علىّ الآن، ترى هل ثمة فائدة تحققت مما بذلت فيه جهدى طيلة تلك السنوات؟ أم أنه كان جهدا بلا طائل؟.