الجمعة 26 أبريل 2024
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي
رئيس مجلسي الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي

آراء حرة

على خلفية أحداث "الكرم": الأصل والصورة

تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق google news
لا سبيل إلى بناء دولة مدنية حديثة، دون المرور بمنعطفات خطرة صعبة، نواجه فيها بشجاعة وعزم أكيد ما نكنزه من ميراث عقائدى سلبى لطالما انتقص بالفعل من مصداقيتنا فى العالم، ومنعنا قسرا من اقتناص فرص الترقى داخل منظومة المجتمعات المتحضرة؛ إذ لا تبرح جهودنا مواقعها الأثيرة السهلة أمام شاشات الفضائيات، دون جهد واضح نبذله فى مراجعات جادة وحقيقية، نجابه بها النفس وما تأمر، ونكافح معها تحديات كامنة فى أعماق التجربة الوطنية لم تجد من يتصدى لها بشجاعة على نحو فعال، إيثارا للسلامة، وخضوعًا لقوالب فكرية جامدة ما أثمرت يومًا إلا عجزًا عن قفزات واسعة سريعة كتلك التى نتمناها لمصر الثلاثين من يونيو.
والواقع أن أملًا يلوح فى الأفق، بموجبه ربما نمتلك معًا شعبًا ونظامًا سياسيًا حاكمًا ومعارضًا، أملًا يتأسس على الشعبية الهادرة الفريدة التى يتمتع بها الرئيس السيسي، على خلاف كل الرؤساء السابقين الذين تعاقبوا على حكم مصر، إذ قد ننجح إذا امتلكنا الإرادة الحقيقية لتغيير نمط تفكير الدولة فى مراجعة مواقفها من ميراثها السلبى الكاشف لسعة الهوة بين ما نعلنه فى حوارنا المجتمعى من رغبة فى تطبيق المزيد من القيم الإنسانية العالمية، وحقيقة ما نؤكد عليه من ممارسات على الأرض، ليست على صلة بمبادئ المجتمعات الديمقراطية.
فى هذا السياق، تأتى وتتلاحق فى تتابع لا ينقطع، أحداث تشير بقوة إلى عمق الفجوة بين الأصل والصورة، الأصل فى الشارع، والصورة على شاشات الفضائيات، وصفحات الصحف. فتتوالى ممارسات توافقنا على تسميتها «فتنة طائفية»، وما هى إلا تعبير صادق وأمين عن غياب سيادة القانون، كأساس ليس أفضل منه لقياس مدى تحضر المجتمعات، وحجم ومضمون محتواها الديمقراطي.
لا أود هنا التركيز على واقعة قرية الكرم بالمنيا الأخيرة، فليس فيها من جديد يُذكر إلا فى تفاصيل صغيرة، وإن كانت شديدة الألم. ذلك أن الحدث متكرر، وتناول الإعلام له واحد فى كل مرة، ورد فعل المؤسسات الرسمية للدولة لا جديد فيه، وحتى الأثر الناتج فى مشاعر الناس لا يتبدل؛ ومن ثم فنحن أمام نمط تقليدى للأزمة، يمارس فيه كل منا دوره المعهود. 
والمؤسف أن لا جديد تنتجه الثورة المصرية فى هذا الشأن، وهو ما لا ينبغى الصمت أمامه، إذ أنه بالفعل يخصم بشدة من رصيد ثورتنا، طالما أن الثورة عمل تراكمى من شأنه إحداث تغيرات مجتمعية جذرية تطال كل أوجه المجتمع؛ ومن ثم ينبغى أن تُستدعى القيم العاكسة لما طرأ على المجتمع من تغيرات، لو كانت قد طرأت، على حساب قيم بالية كانت الدافع إلى واقع سيئ استلزم ثورة شعبية لمواجهته؛ فإذا لم ينشأ ذلك الصراع بين القيم البالية الرجعية، والقيم الجديدة الحاملة لمبادئ وأفكار وأهداف الثورة، حازت الشكوك مشروعيتها باتجاه ما تحقق من الثورة على الأرض.
وعليه، لا مجال لتغييب القانون، بدعاوى هشة ما أنتجت يومًا أثرًا يُذكر؛ فليس فى محاولات عرفية «لاحتواء» الموقف، إلا إقرار بأن ثورة لم تنهض بالفعل، وأن فكرًا جامدًا لم يتجاوب بحق مع الثورة، مثلما مرجعية دستورية لم تزل بعيدة عن أن تحكمنا جميعا؛ ومن ثم السراب يحيط بمحاولات البحث عن الدولة المدنية الحديثة؛ ذلك المفهوم الراقى الذى ابتذلناه كثيرًا، حتى ما بات لدينا شيء من مضمونه الحقيقي.
فواقع الأمر، أن الجلسات العرفية لمجابهة مشكلاتنا، باتت غالبة فى كثير من النواحي، وليست ما نسميه «أحداث فتنة» فقط، من الرياضة إلى مجتمع المال والاقتصاد إلى الأحزاب السياسية، وغيرها... بل امتد مفهومنا القاصر على هذا النحو إلى الدبلوماسية الشعبية التى اعتبرناها جلسات عرفية لحل مشكلات عجزت عن حلها الدبلوماسية التقليدية! وهو ما يفسر عدم نجاح «دبلوماسيتنا الشعبية» بشكلها السياحي من أزمة سد النهضة الإثيوبي، إلى أزمة تعذيب وقتل الباحث الإيطالى ريجيني، إلى أزمة الطائرة الروسية وانقطاع السياحة بالجملة، وغيرها أزمات كثيرة، واجهناها «بجلسات عرب» عرفية، فما زادنا ذلك إلا بُعدًا وغيابًا عن ممارسات المجتمعات الديمقراطية المتقدمة، المستندة إلى القانون كركيزة أساسية لبناء المجتمع.
والحال على هذا النحو المؤلم يشير إلى غياب القانون كقيمة مجتمعية لا يعلو عليها، مع تدنى قناعاتنا بالعمل المؤسسى بشكل عام. وعليه نرتد سريعًا إلى مجتمعات ما قبل نشأة مفهوم الدولة، ككيان قانوني، بينما خطابنا يشير كذبًا إلى أننا إزاء محاولات جادة لبناء دولة مدنية حديثة! وعلى خلفية واقعة قرية الكرم بالمنيا، نؤكد أن دور علماء الدين، لا يمكن أن يأتى على حساب القانون، لكنه منوط به مهمة أكثر اتساعًا وتغلغلًا داخل المجتمع. وبالتالى يشى الأمر بصعوبات شتى يواجهها خطابنا الديني وتخلفه بات واضحًا عن إدراك سُبل فعالة لتغيير أنماط سلوكية لا صلة لها بالدولة المدنية التى ننشدها، ونضحى بالكثير من أجلها. ومن هنا تبدو محاولات تجديد الخطاب الدينى فى حاجة إلى مراجعات جادة وحقيقية، بموجبها نخرج محاولاتنا من أطرها التقليدية العقيمة، إلى فضاءات أرحب، تتناسب وطبيعة التطور الحادث فى المجتمع، وما يملكه من أدوات للتواصل السريع، وما تفرضه عليه من ثقافات متباينة تمامًا عن تلك التى يمكن أن تؤثر فيها خطبة جمعة هنا أو هناك، أو حديث تليفزيونى نحشو به الوقت الميت فى محطة فضائية، أو مقال تطويه الصحف لا يدرك طبيعة المتغيرات التى طرأت على المجتمع الذى يقرأ له، هذا إذا قرأه أحد!
الدولة بمفهومها الواسع مؤسسات رسمية وغير رسمية، منوط بها مواجهة منعطفات خطرة على طريقها صوب أهدافها التنموية النبيلة، غير أن رعاية رسمية ينبغى أن تُظلل كل الجهود، فنجد المؤسسات الرسمية للدولة عليها أن تضرب مثلًا ونموذجًا يحتذى به الناس، إذا ما أردنا أن نُعلى من شأن القانون، فلا تسعى إلى حلول عرفية لمسائل قانونية بالأساس، لا ينفى ذلك أن العرف أحد مصادر القانون، إلا أنه لا يقوى على منازلة القانون كقاعدة أساسية. 
فى هذا الإطار أيضًا، لا ينبغى للدولة، وهى المحتكرة للقوة الجبرية إكراه الناس على الخضوع للقانون، وأن تهدر القانون بدعاوى المصالحة. ولا تميل إلى تغليب رأى على آخر بدواعى التوافق. ولا تنسحب من حياة الناس تحت ضغط آليات السوق والعرض والطلب. ولا تزيح العدالة الاجتماعية لصالح المصالح! ولا تنشغل بسد مساحة التباينات المجتمعية الطبيعية بدواعى الحرص على وحدة الصف خشية إعمال القانون.
وعليه، تسقط دعاوى المصالحة، أيًا كان محلها، إن حلت محل سيادة القانون، نفس السقوط الواجب للمهادنة إن راحت تلتف على القانون طلبًا لراحة البال، وذات السقوط المطلوب لشبكات المصالح الكفيلة بإنقاذ الفاسدين والمفسدين بسحب ملفاتهم عن سطح الأحداث، لتحل محلها أزمات فاضحة كاشفة لمدى معاناتنا فى بناء دولة حديثة على أسس سليمة، تتبنى قيم الثورة ومبادئها، وتحقق أهدافها المشروعة، وترسخ قيمها الإنسانية النبيلة. عندئذ فقط يصبح الأصل فى الشارع مطابقًا، أو قريب الشبه بالصورة على شاشات الفضائيات.