الخميس 25 أبريل 2024
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي
رئيس مجلسي الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي

بوابة العرب

القضاء العشائري في فلسطين.. صمام أمان للدماء والأعراض

البوابة نيوز
تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق google news
يلجأ كثير من الفلسطينيين إلى القضاء العشائري لحل خلافاتهم نظرا لسرعة البت في القضايا ونجاعة الحلول التي يقدمها وتوفيره درجة عالية من الحماية والأمن للمتخاصمين، إضافة إلى دوره الكبير في إطفاء نار المشاكل فور وقوعها ونزع الضغائن من النفوس.
ومع احتلال إسرائيل لفلسطين وما نتج عنه من فراغ قانوني وغياب للسلطة الوطنية وبالنظر إلى رفض المواطن الفلسطيني التعامل مع أجهزة المحتل ومحاكمه، فإنه لم يجد سبيلا آخر سوى اللجوء والاحتماء تحت مظلة العرف العشائري الذي يعتبر مجموعة من العادات والتقاليد المتفق عليها والمقبولة والملزمة للجميع في المجتمع الفلسطيني بكافة شرائحه.
واستمر دور العرف العشائري بالتعاون مع باقي مكونات المجتمع في ضبط الأمور في الضفة الغربية وقطاع غزة حتى قدوم السلطة الوطنية الفلسطينية عام 1994 التي باشرت ضبط الأمن في الشارع الفلسطيني وبقي للعرف اتمام المصالحات في حال لجوء المتقاضين إليه بعيدا عن القضاء النظامي.
ويقول القاضي العشائري الشيخ محمود سالم ثابت "أبو السعيد" لمراسل وكالة أنباء الشرق الأوسط في الأراضي الفلسطينية:"القضاء العرفي في فلسطين ظاهرة اجتماعية كباقي الظواهر الأخرى رغم اختلافها من بيئة إلى أخرى ولا يقتصر على البادية فقط بل هو معمول به في الريف الفلسطيني وله خصائص يتميز بها، منها أن القضاة العرفيين ليسوا متفرغين لمهنة القضاء بل يمارسون مهنا مختلفة كالفلاحة والتجارة وتربية الماشية، وأنه ليس له دستور أو قانون مدون بل أن القضاة يصدرون أحكامهم بموجب ما ألفوه واعتادوا عليه وسمعوه في قضايا مماثلة وهذه الأحكام محفوظة على شكل أقوال مأثورة مثل "لا على عيب ورود.. ولا على دم شهود" ولا يمنع ذلك من أن يقوم القاضي بالاجتهاد في قضية معينة".
وأضاف "أبو السعيد" وهو شيخ عشيرة "الثوابتة قلازين" من قبيلة "الجبارات" إحدى قبائل النقب"الأحكام تصدر عن القاضي العرفي شفاهية لكنها مدروكة ومحفوظة من قبل الكفلاء والشهود والحضور ومع انتشار القراءة والكتابة أصبحت الأحكام مدونة وأصبح كل خصم يستطيع الحصول على حكم مكتوب وموقع من القاضي، فضلا عن أن القضاء العرفي لا يتم في غرف مغلقة كما هو الحال في المحاكم الحكومية وتعقد جلساته في بيت مشهور وعلى الملأ وأمام جمع غفير من الناس".
وتابع الشيخ الستيني الذي تخرج في كلية التجارة جامعة عين شمس عام 1978:"القضاء العرفي له طبيعة قاسية في أحكامه كما يتميز بالسرعة في إصدار القرارات والاحكام وبالسرعة في تنفيذ هذه الاحكام في وجه الكفلاء لأن العدالة البطيئة تشكل شر أنواع الظلم، كما يتميز بخاصية الإصلاح والقدرة على ازالة الاحقاد بين المتخاصمين وتصفية القلوب بعد اعادة الحقوق لأصحابها على عكس القانون الوضعي الذي رغم قدرته على تنفيذ الاحكام إلا إنه لا يستطيع ازالة الاحقاد من النفوس".
وأوضح أن المجرم في القضاء العرفي ليس مسئولا عن جرمه الا في جرائم السرقة والاعتداء على العرض فقط، وفي باقي الجرائم كالدم تطال المسئولية خمسة المجرم وهم (الولد والأب والجد وجد الأب وجد الجد).
وحول الصفات الواجب توافرها في القاضي العشائري، يقول "أبو السعيد" "هناك صفات حميدة يجب أن يتحلى بها كل من يتبوأ مكان القاضي العشائري وبدون توافر هذه الصفات لا يستطيع أن يحظى باحترام الآخرين وتكون قراراته ضعيفة ولا ثقة للمتقاضين فيها ومن هذه الصفات النقاء والورع وألا يخشى في الحق لومة لائم والذكاء ونظافة اليد وسرعة البديهة وسعة الصدر وحسن الاستماع وقوة الذاكرة والفراسة وقوة الشخصية حتى يستطيع ضبط مجلس القضاء والتحليل الصحيح لحجج المتخاصمين والمساواة بينهم في مجلس القضاء وان يكون له مرجعية وجذور في القضاء العشائري وذا مكانة عالية في عشيرته وفي العشائر الأخرى وأن تكون عشيرته ذات سمعة حسنة بين العشائر".
وفيما يتعلق بإجراءات التقاضي، أوضح "أبو السعيد" أن درجات التقاضي في العرف تتكون من ثلاث طبقات، فالقاضي الأول يعتبر محكمة أول درجة (ابتدائية) والقاضي الثاني (المعدوف ومعناه الاختيار لقاضي يتوخى منه العدالة والانصاف) ويعتبر استئناف، والقاضي الثالث يعتبر قاضي تمييز لترجيح حكم على حكم في حال اختلاف قرار القاضي الثاني عن الأول.
وأضاف:"حسب العرف العشائري يجوز أن يستعين أي طرف من طرفي النزاع بما يسمي "اللسان" والذي يعادل المحامي وفقا للمصطلحات الحديثة، أي أنه وكيل المتقاضي في مجلس القضاء وهو المترافع باسمه في قضيته أمام القاضي، ويستعان باللسان إذا لم يكن صاحب القضية عليما بأصول التقاضي ولم يكن له كبير يمثله في القضية، وفي العرف والعادة يطلق على مجلس القضاء اسم "ملعب الشطار"، وبالتالي فإن الطرف الذي لا يجيد فن الحديث وعرض قضيته بطريقة مقنعة، لابد له من استئجار شخص ينوب عنه "اللسان".
وأردف " لابد للسان أن يكون ضليعا بالقضاء وفروعه وأسراره ولديه خبرة سابقة وعلى علم بالسوابق القضائية، واللسان رأيه ملزم لمن ينوب عنه، ويحق لصاحب القضية أن يغيره متى شاء ويوكل لسانا جديدا".
ويسرد "أبو السعيد" أبرز طقوس القضاء العرفي قائلا "عندما تحدث المشكلة، يتدخل أهل الخير تطوعا أو تكليفا ويقومون بشيء اسمه "التبريد" إلى أن يتمكنوا من "بناء العمار" بين المتخاصمين، و"بناء العمار" له طقوس خاصة هي أن يأتي المتضرر إلى رجال الإصلاح المكلفين من الجاني، ولكل عمار شروط، فالقتل له شروط، والأذى له شروط، والعرض له شروط، ومن ثم احتواء النتائج في البداية وعدم البحث في التفاصيل لأن الشيطان يكمن في التفاصيل، ثم تحال القضية إلى أهل الاختصاص".
وقال إن "بناء العمار" يعنى أن يقبل أهل المجنى عليه استيفاء حقوقهم المادية والمعنوية الخاصة عن طريق العرف العشائري دون المساس بالحق العام (حق المجتمع)، وبعد موافقة أهل المجنى عليه على فتح باب العمار لأهل الجاني عملا بالعادات والتقاليد والثوابت العشائرية المتبعة، ننتقل إلى ما يسمى "نقل الجيرة"، وفيها يتم عمل "صك عمار" مع إحالة النزاع للتحكيم إذا أراد أهل المجنى عليه أو المتضرر ذلك بعيدا عن القضاء الوضعي".
وأضاف "في بداية العمار لا يوجد ظهور لعائلة الجاني مطلقا ولا تجلس مع عائلة المجني عليه، لكن عند "الطيب والطياب" (دفع الدية) وإقامة حفل المصالحة بحضور الوجهاء والمعازيم، يجلس أهل الجاني في مكان محدد ويتم الاستئذان لهم بالدخول في مقر حفل المصالحة تحت مظلة "كفلاء الدفع" ويستقبلهم أهل المغدور ويتبادلون السلام في حضور الناس الذين تعلو حناجرهم بالتكبير".
وعما إذا كان القاضي العشائري يتلقى أموالا مقابل جهوده في الإصلاح بين المتخاصمين، قال الشيخ "أبو السعيد" ثابت:"نعم يتقاضي ما يسمى بـ "الرزقة" وهذا الشيء متعارف عليه تاريخيا منذ آلاف السنين، وهي عبارة عن مبلغ من المال يقدم للقاضي كرسم للقضية وفق المصطلحات الحديثة وتعد بمثابة بدل اتعاب وثمن للقرار الذي سيصدره القاضي وفي نفس الوقت يعتبرها البعض مساعدة للقاضي في المصاريف التي يتحملها مثل اعداد الطعام والقهوة العربية وخلافه للمتخاصمين ومن معهم ويكونون عادة بالمئات".
وأوضح أن المتخاصمين عندما يذهبون إلى القاضي العرفي يعلمون أنهم سيدفعون "الرزقة"، وفي نهاية القضية يتحمل الطرف الخاسر رسوم القضية بالكامل في حين يسترد الطرف الرابح ما دفعه.
واستطرد قائلا "قيمة "الرزقة" قديما كانت تحدد بعشر "الطلابة" وأحيانا بخمسها أي خمس الشيء المتنازع عليه، ولكن في كثير من الأحيان تحدد قيمتها وفقا للمستوى المعيشي والوضع المادي للمجتمع وحسب أهمية وحجم القضية، وتكون مبلغا معقولا ومقبولا من الطرفين وهناك قضاة بالغوا في تحديد قيمتها وجعلوها مصدرا للرزق، وهناك قضاة آخرون وهم كثيرون لا يأخذونها بل يساهمون بها في فض النزاع لوجه الله تعالى".