الإثنين 13 مايو 2024
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي
رئيس مجلسي الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي

آراء حرة

الإنسانيات والطب

تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق google news
نقل إلىّ الصديق الدكتور خالد منتصر مؤخرًا، دعوة كريمة من كلية طب جامعة قناة السويس بالإسماعيلية، للمشاركة في ندوة حول أهمية تدريس العلوم الإنسانية، ضمن ما يدرسه طلاب الطب. وقد أتاحت لى المشاركة في الندوة أن أطل على تلك الجامعة الشابة التي صدر قرار إنشائها عام ١٩٧٦ بعد عودة الحياة لمدن قناة السويس أثر انتصار أكتوبر ١٩٧٣ وفى عام ١٩٧٧ تم تكليف أ.د زهير نعمان وأ.د عصمت عزت رحمهما الله بإنشاء كلية طب جامعة قناة السويس، وكان لديهما حلم يرتكز على التعلم بأسلوب حل المشاكل، ودراسة المنهج على هيئة مشاكل صحية كما يراها الطبيب حين التخرج في حياته العملية؛ وصمد الحلم في مواجهة هجوم شرس اختلط فيه الجمود الفكرى مع المصالح المالية. وتخرجت أول دفعة من الكلية في أكتوبر ١٩٨٧، وهى الدفعة التي يتولى أبناؤها العمل على استمرار تجسيد ذلك الحلم. وذكرنى ذلك الحلم الذي سعت وتسعى الكلية لتجسيده بصديقى الراحل صلاح حافظ. طبيب لم يكمل دراسته للطب وانغمس في الصحافة والأدب والفن والنضال السياسي أيضًا. وبدأ مشوار وتألق صلاح حافظ في روزاليوسف، وكان له باب شهير بعنوان انتصار الحياة، كتب فيه مقالا بعنوان «حقنة..قطرة.. شربة» يسخر فيها من نمطية العلاج حتى مع اختلاف المرضى، مشيرا إلى قصة دكتور تصادم مع والد طفل مريض بالكساح، لأنه أعطاه حقنًا من الكالسيوم ولم يشف الطفل؛ وقد تناسى الطبيب أن الطفل يسكن في حجرة لا تدخلها الشمس. كان صاحبنا الطبيب ضمن من يحاولون إخضاع المريض لمعلوماتهم بدلًا من إخضاع معلوماتهم للمريض، ويكتبون وصفاتهم الطبية على ضوء مبادئ مقروءة بدلًا من استنتاجها من أوضاع قائمة. الطبيب الذي تحدث عنه صلاح حافظ كان مخلصًا تمامًا لما درسه وتعلمه. أمامه «حالة كساح» علاجها حقن كالسيوم. المريض لم يشف، إذن فهو لم يلتزم بدقة بتعليمات الطبيب. ليس مطلوبًا طبعًا أن ينحى الطبيب ما درسه وتعلمه جانبًا؛ ولكن كان عليه أن يرفع عينيه عن الكتاب قليلا ليرى أن أمامه إنسانًا هزيلًا رقيق الحال كما تدل على ذلك ملابسه وملابس طفله المهلهلة؛ وأنه ليس أمام مجرد «حالة كساح». صحيح أن كثيرا من أطبائنا لديهم من الحس الاجتماعى والمشاعر الإنسانية، ما يمكنهم من التعاطف مع مرضاهم، والتعامل معهم وفقا لحقيقة أنهم أفراد يعيشون في مجتمع وليسوا مجرد حالات مرضية. ولكن لكى يصبح جموع الأطباء متمكنين من تلك الحقيقة العلمية البسيطة، دون الاعتماد فحسب على مشاعرهم الإنسانية؛ ولكى نتمكن أيضًا نحن المرضى من الاطمئنان إلى أن طبيبنا قد درس فيما درس طبيعة الإنسان باعتباره إنسانًا؛ ينبغى أن نهتم بأن تكون «العلوم الإنسانية» جزءا من المقررات التي درسها أطباؤنا في كلياتهم. لقد أتيحت لى منذ سنوات بعيدة، فرصة استثنائية نادرة إذ دعانى أصدقاء أفاضل لإلقاء عدد من المحاضرات لطلاب الدراسات العليا في كلية الهندسة بجامعة عين شمس، وكليات الطب في جامعات القاهرة وعين شمس والأزهر؛ وبطبيعة الحال لم يكن لتلك الخبرات الاستثنائية أن تحدث لو لم يسعدنى الحظ بصداقة عدد من العلماء الكبار المتخصصين في تلك الفروع العلمية والذين اتسعت رؤيتهم للتعرف على ما ينقص طلابهم آنذاك. لقد اكتشفت آنذاك أن هؤلاء الأبناء الذين أتاح لهم تفوقهم العلمى الالتحاق بتلك الكليات العلمية المتخصصة، واجتياز سنوات الدراسة فيها بنجاح، يؤهلهم للالتحاق بالدراسات العليا لم يتلقوا عبر جميع مراحل تعليمهم من رياض الأطفال إلى الحصول على الدكتوراه، مقررًا واحدًا يحمل اسم المنطق أو مناهج البحث أو طرق التفكير العلمى باعتبارها جميعا تدخل ضمن تخصصات «التعليم الأدبي» وتحديدا «الفلسفة» ومن ثم فإنهم يتعجبون من النظر إلى مادة «مناهج البحث» باعتبارها علمًا متخصصًا يتطلب دراسة أكاديمية متخصصة، ولا يجوز الاعتماد فيه على الاجتهاد والتقليد أو حتى الخبرة السابقة مهما كانت وأن «علم النفس» علم كبقية العلوم بلغت فروعه المتخصصة اليوم ما يزيد على الخمسين فرعًا. وبذلت ما وسعنى من جهد لإبراز حقيقة أن الإلمام بمناهج البحث وقواعد الاستدلال والتفكير المنطقى، هو الذي يفرق بين الإبداع العلمى والإتقان الحرفى، وأن جوهر الإبداع العلمى يقوم على الشك فيما هو مستقر ومحاولة تجاوزه، في حين لا يتجاوز الإتقان الحرفى حدود الالتزام بأصول الصنعة كما سبق تعلمها. لقد تعاطفت مع هؤلاء الأبناء والتمست لهم العذر. فقد كان طبيعيًا في ظل نظام تعليمى لا يتضمن مقررًا دراسيًا واحدًا يحمل شبهة دراسة المنهج العلمى القائم على الشك وقواعد تفنيد الأفكار، أن ترسخ لدى هؤلاء الأبناء عقيدة مؤداها أن التفكير لا يحتاج إلى تعليم أو تدريب وأن تمحيص الأفكار الثابتة تزيّد لا معنى له وأنه يكفى للتسليم بصواب فكرة معينة أن تبدو منطقية أو أن تصدر عن مصدر ثقة أو أن تتفق مع مشاهدات «واقعية» أو أن تكون متكررة لزمن طويل.
ومن هنا لم تكن صدفة أن نجد غالبية قادة الحركات الأصولية الإرهابية من خريجى كليات الطب والعلوم والهندسة. لقد استبدلوا الأصولية الدينية اليقينية بالأصولية العلمية اليقينية التي نشأوا عليها.