السبت 27 أبريل 2024
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي
رئيس مجلسي الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي

آراء حرة

النظارة السوداء

تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق google news
بينما كنت ذات يوم أجلس مع أحد أصدقائى على مقعد فى أحد ميادين ميناء نورشوبينج السويدى، مددت يدى وأنا أشير بسبابتى فى اتجاه وقلت له: انظر إلى تلك الفتاة.
كانت الفتاة تغطى عينيها بنظارة سوداء، وترتدى رداءً شديد السواد، وتجلس متقوقعة فوق المحيط الرخامى الشديد البياض المحيط بنافورة كبيرة رائعة الجمال، تبدو بفعل جريان الماء مثل شلال يلفت بروعته الأنظار تصدر منه موسيقى تلفت الأسماع مؤلفة جملها من هدير وخرير الماء، مقطوعاتها أكثر من رائعة وأعذب من سيمفونية بتهوفن الخامسة.
قال: إن ملامحها تفيض بالحزن والاكتئاب، قلت: إنها أشبه بدمعة فى وجه الميدان، قال: تبدو كما لو أنها مريضة بمرض عضال، وقد أخبرها الأطباء أنها ستودع الدنيا خلال أيام، قلت: أو ربما تكون قد فقدت لتوها أعز وأحب الأحباب، قال: أشعر أن وعاء قلبها لا يستوعب ما تحمله من آلام وأحزان، قلت: أشعر أنها لا تحمل فقط آلامها وأحزانها وإنما تحمل آلام وأحزان كل الناس.
كان الميدان رائع الجمال، كأنه لوحة رُسِمَتْ بيد أعظم فنان، فكل ما فيه متناسب الأبعاد، متناسق الأشكال، متناغم الألوان، يضج بالحياة، تنطق فيه كل الأشياء بالفرح والسرور والابتهاج، والمارة تشرق فى وجوههم جميعًا بلا استثناء أجمل البسمات ويُسمع لبعضهم ضحكات إلا تلك الفتاة التى بَدَتْ غارقة فى بحر الأحزان، وفى حالة سكون واستسلام كأنها مربوطة بسلاسل ومقيدة بأغلال، وبَدَتْ نظارتها السوداء كما لو كانت سدًا من السدود التى تقام على الأنهار لتمنع ماءها من الجريان، وإن حدث أن انهار لجرت دموع من عينيها لن تستطيع إيقافها.
وكان المارة من حولنا مشغولين بحياتهم عمن حولهم وبشئونهم عن شئون غيرهم، ويعبر بعضهم الخط الواصل بيننا وبينها.. لم يشعروا بها!.. كان يستوى عندهم وجودها وعدم وجودها، وحزنها وفرحها، وصمتها وكلامها، وعبوسها وابتسامتها، ولا يرون سد نظارتها العالى المقام على مجرى نهر دموع عينيها الجارى، وتذكرت وقتئذ ما رأيته ذات يوم فى ميناء السويس.. كلبًا يجرى حاملًا بفمه غرابًا ميتًا، وتطير فوقه بذات سرعته غربان تنوح غاضبة بصورة مزعجة، وتبدو تحت أشعة الشمس الساطعة، كما لو كانت مظلة تظل الكلب متحركة.. فاندهشت حينئذ وقلت: ترى ماذا تريد الغربان من الكلب؟!، ثم أخذت الغربان تنقر الكلب وتضيق عليه الخناق حتى اضطر لأن يلقى الغراب ويفر فى الحال، فحملت الغربان بمناقيرها الغراب فى مشهد بدا لى آنذاك - بل ومازال يبدو لى حتى الآن - من العجب العجاب، وطارت به فى جوف السماء حتى اختفت عن الأنظار! فلما استفسرت فيما بعد عن سر ما فعلته الغربان مع الكلب.. قيل لى: ‏إن الغربان كانت تريد أن تدفن الغراب! كثيرون وكثيرات فى الحياة حالهم كحال تلك الفتاة - وإن لم يلبسوا نظارات سوداء غارقون فى بحر الأحزان، وهم مربوطون فى أعماقه بالسلاسل ومقيدون بالأغلال، ويئنون من شدة ما يشعرون به من آلام، وينشغل عنهم الناس مثلما انشغلوا عن الفتاة فى الميدان.. وقلما نجد الناس يتألمون لحال إنسان مثلما تألمت الغربان لحال الغراب.