الخميس 25 أبريل 2024
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي
رئيس مجلسي الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي

آراء حرة

عقدة الأصالة والجذور الحضارية عند الدولة الأمريكية

تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق google news
يعانى المجتمع الأمريكى من عقدة الأصالة والجذور التاريخية والحضارية، نظرا لحداثة وجوده وظهوره وإقامته على الأرض الأمريكية التي اكتشفت منذ ٤ قرون من الزمن، أثرت على تكوينه النفسى والأيديولوجى والعقائدى وأيضًا على فقه السياسة الأمريكية. ولم تستطع الدولة الأمريكية أن تتخلص من هذه العقدة المتأصلة في أعماقها وضميرها حتى الآن، بالقدر الذي صبغ كل سياساتها وتصرفاتها بنزعة الغل والانتقام والاستغلال والسطو على ممتلكات الدول وثرواتها، دون أن تعترض وإلا تعرضت لأبشع ألوان الابتزاز والتهديد والتدخل السافر في شئونها الداخلية. وتعتبر هذه السياسات الأمريكية إحدي الوسائل الدفاعية الشاذة التي تدفع عن كيانها غائلة التوتر والقلق والصراع النفسى لمواجهة عقدها النفسية المدمرة.
فالولايات المتحدة الأمريكية كيان شاذ، جاء بالصدفة إلى أرض الهنود الحمر الملاك الأصليين، وأصحاب هذه الأرض والتي سميت بعد عمليات الغزو القوية والشرسة واحتلالها وإقامة المستعمرات للمستوطنين الجدد بدولة أمريكا، هذه العمليات قامت بها الدول الغربية في أولى موجات الاستعمار، ومن بينها بريطانيا وفرنسا وهولندا وإسبانيا. ثم بدأت موجات أخرى من الدول الآسيوية والأفريقية ودول أمريكا الجنوبية، وبدأت تتكون المستعمرات وبالتحديد البريطانية على امتداد هذه الأرض الشاسعة والممتدة، ثم بدأت المستعمرات البريطانية تنضم لبعضها وتتحد وأيضًا المستعمرات الفرنسية والإسبانية والهولندية، إلى أن وصلت إلى شكل الدولة. فالمشاهد للمجتمع الأمريكى لا يمكن أن يصل إليه الانطباع أنه أمام مجتمع متجانس وطبيعى له خصائص ومقومات المجتمعات المتعارف عليها، بل على العكس تمامًا يجد الإنسان نفسه أمام مجتمع شاذ وغريب، فأفراده بعضهم ذوو بشرة بيضاء والبعض ذوو بشرة سوداء والبعض الآخر ذوو بشرة صفراء. كما يجد الإنسان توليفة دينية وعرقية وعقائدية عجيبة ليس بينها أي ارتباط عضوى أو دينى أو عقائدى أو فكرى مما دفع المستوطنين الأولىن للعمل على صهر هذه العناصر الغريبة لتكوين مجتمع طبيعى له خصائص ومقومات متجانسة ومؤهلة لوجود الدولة أسوة بما هو موجود بين جميع المجتمعات على كوكب الأرض.
بيد أن قصة أمريكا هي قصة استعمار أوروبي، حاول غرس حضارة قديمة في بيئة برية موحشة. ففى أحد أيام شهر إبريل سنة ١٦٠٧ رست ثلاث سفن أعطبتها العواصف في رحلتها بقيادة الكابتن كريستوفر نيوبورت وقرب مدخل خليج شسابيك، وانزلت بعض رجالها على الشاطئ، وقد راعى هؤلاء الرحالة ما رأوه من غابات جميلة وأعشاش للديكة الرومية ترى من كل مكان، وتحدث أحدهم وهو جورج برس عن القرية الهندية التي حصلوا من أهلها على خبز من الحبوب، غير أن هذا الوصف المشرق لم يلبث أن شابهه كثير من الخوف والهلع، حين وصف برس كيف هاجم الهنود المتوطنين وهم يزحفون من التلال القريبة كما تزحف الدببة على أربع، حاملين أقواسهم في أفواههم، وكيف تفشت الأمراض القاسية بين المستوطنين، فأصيبوا بالأورام ونزف الدم والحمى الشديدة، وكيف مات كثيرون منهم بسبب الجوع وكانت أجسادهم تجر من أكواخهم كما تجر الكلاب إلى حيث توارى في مضاجعها الأخيرة.
إن بناء مجتمع أو أمة جديدة في أمريكا، لم يكن بالشيء الهين البسيط، بل كان عملًا ضخمًا مخيفًا، وكان يتطلب الكثير من الجهد والمشقة، وكان مقرونا بمواجهة الأخطار والصعاب، فقد كانت أمريكا قارة شاسعة ممتدة تكسو الثلث الشرقى منها غابات لا سبيل فيها ولا مسالك، جبالها وأنهارها وبحيراتها وسهولها المموجة تتسم بالضخامة. جهتها الشمالية قاسية البرد في الشتاء، والجنوبية محرقة في الصيف تملؤها الوحوش الكاسرة ويسكنها آدميون يعيشون بفطرة الغاب، طبعهم القسوة والخديعة وحضارتهم هي حضارة العصور الحجرية، كانت أرضًا يصعب الوصول إليها، فهى محاولة محفوفة بالأخطار، وكان عدد الذين يموتون خلال الرحلات كعدد الذين يصلون إليها سالمين. لقد وفد المستوطنون البريطانيون الأولون إلى القارة الجديدة البكر في أفواج قوية وأقاموا فيها قلعة وكنيسة ومخزنًا وصفًا من الأكواخ الصغيرة وتمت زراعة التبغ في هذه المستعمرة، وكانت أثمانه في لندن مرتفعة ارتفاعًا حفز الناس جميعًا على زرعه وتحولت أرض السوق نفسها إلى مزرعة للتبغ وازداد عدد الخنازير والماشية، على أن نمو المستعمرة كان بطيئا. وفى سنة ١٦١٩ لم يزد عدد سكان فيرجينيا على ألفى نسمة، وقد عرفت هذه السنة بثلاثة أحداث مهمة كان أهمها وصول سفينة من إنجلترا تحمل ٩٠ فتاة أصبحن زوجات لأولئك المستوطنين الذين كان في مقدورهم دفع ١٢٠ رطلا من التبغ مقابل نفقات انتقال كل منهن، وقد كان من أثر الترحيب بهذه الشحنة أن شحنت أخرى مماثلة ما لبثت أن وصلت بعد ذلك. أما الحدث الثانى أنه في الثلاثين من شهر يوليو ١٦١٩ اجتمعت أول جمعية تشريعية بالقارة في كنيسة جيمستون، حيث أقام جون رولف منذ عدة سنوات صلحًا مؤقتًا عن طريق زواجه ببوكا هنتاس، وكان هذا المجلس يتكون من حاكم و٦ مستشارين وممثلين اثنين لكل مزرعة من المزارع العشر. وأما الحدث الثالث في تلك السنة، فهو وصول سفينة هولندية في شهر أغسطس تحمل رقيقًا أسود باعت عددًا منهم للمستوطنين. وتبع ذلك قيام مستعمرات بريطانية أخرى بسرعة، وتسارعت الأحداث وتركز التحرك نحو الاعتماد على جذب الفتيات الإنجليزيات والهولنديات إلى الأرض الجديدة، ليصبحن زوجات لأولئك المستوطنين. وأيضا الدفع بالعبيد السود من أفريقيا للعمل في مزارع المستعمرات الإنجليزية بصفة خاصة أخذ الناس يدركون أن الحياة في أمريكا حياة حسنة، بدأت في أوروبا هجرات من تلقاء نفسها، جاءت على شكل نبضات ببواعث كثيرة ومتنوعة، فالموجتان الأولىان اتجهتا إلى ماساشوستس وفيرجينيا، فقد أصابت طائفة البيوريتان في إنجلترا بين سنة ١٦٢٨ و١٦٤٠ حالة كآبة شديدة وفزع كبير فقد وقع عليها الكثير من ألوان الاضطهاد والظلم والقهر وبدأت السلطات الأمريكية تعمل على إحياء الأساليب الكنسية القديمة وإخضاعها للتاج وللرؤساء الأساقفة، وتأثرت البلاد وعمت الفوضى والإرهاب أرجاء المملكة مما شجع الكثير منهم للهجرة إلى أمريكا، بيد أنه لا يمكن رسم حدود اجتماعية حقيقية بين المستوطنين في كل من ماساشوستس وفيرجينيا وبقية الولايات، نظرًا لاختلاف أصول وانتماءات وثقافات الذين أقاموا على هذه الأرض.
هذه العناصر المتنافرة والتوليفة الشاذة من المستوطنين الجدد الذين جاءوا من دول ومجتمعات شتى ومتنوعة إلى الأرض الجديدة هي التي كونت الأرض الأمريكية بعد ذلك. حيث استقرت كل طائفة من المهاجرين المستوطنين الجدد في بقعة على الأرض الأمريكية، وكونوا المستعمرات واستمر الصراع العسكري، والحروب الشرسة والقتال العنيف بين هذه المستعمرات التي كونتها الدول المغيرة على هذه الأرض الجديدة، وأبادوا أصحاب الأرض من الهنود الحمر بأبشع صور الظلم والقسوة والجبروت. 
وكانت المشكلة العويصة التي واجهت المستوطنين الجدد وما زالت هي كيف يمكن أن يتم صهر طوائف هذه المستعمرات بتكويناتها وعناصرها وثقافتها وأيديولوجياتها وأصولها المختلفة في بوتقة واحدة، ليتم انصهار القبائل والسلالات وامتزاج الشعوب التي انتظمت في مستعمرات متنوعة كان أكبرها المستعمرات البريطانية لتتشكل الدولة الأمريكية بعد حرب الاستقلال. وتمكنت أمريكا أن تتبوأ صدارة العالم اليوم، بعد أن نجحت في سرقة العقول والكفاءات العلمية من كل مكان في العالم، وأيضا نجحت في تحقيق ما يسمى بالنقل العكسى للتكنولوجيا، كما استفادت من استجلاب الشعوب الأفريقية والاستفادة من عملها بالسخرة في تأسيس بنيتها الأساسية، وأيضا من خلال ما قامت به من سطو على موارد وأموال وثروات الدول النامية، وهكذا استمر فقه السياسة الأمريكية الذي يسعى إلى نشر الفوضى والخراب والحروب في كل بقاع الأرض، وبالتحديد في المنطقة العربية أرض الأديان والتاريخ والحضارة.