الخميس 25 أبريل 2024
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي
رئيس مجلسي الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي

آراء حرة

تراث يشيخ القلوب ويقتل نبض الحياة

تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق google news
جلس فى إحدى محطات المترو مترقبًا وصول القطار، جلس شاردا مثبتًا عينيه على صورة معلقة على الجدار، لكن الصورة لا تعنى له شيئا سوى أنها اضافت مساحة إلى تركيزه، وماذا الآن يقول له خاطره أنت بلغت الستين من عمرك، وصرت بلا عمل ولا هدف ولا أحلام تنام على أسرتها ولا شغف تفتح ذراعيك من أجله. ولكن الحمد لله فقد أتممت رسالتى فى الحياة، كل الأولاد تعلموا فى الجامعات وتزوجوا ورأيت أولادهم حمدا لله وليحسن الله ختامى وأموت على سريرى.
على أية حال لم يعد هناك ما يفرح فى الحياة، وجال فى خاطره هذه الفلسفة الوجودية الحمقاء، التى أتى بها جان بول سارتر، ذلك الفيلسوف الفرنسى فى أعقاب الحرب العالمية الثانية، والتى كانت ترى أن الحياة ما هى إلا عدم و خواء، مع أنه لم يحب سارتر فى يوم من الأيام، فقد كان يرى أن كلامه ومذهبه كله كفر وشعوذة، لكن من المحتمل أن حالته النفسية الآن استدعت حتى ما يكره، طالما أنه يتفق مع حالته النفسية يجوز، أو حتى لا يجوز، مش فارقة كله مش فارق، لكن هناك شيئا لا أفهمه، فمنذ نحو ثلاثة شهور كنت فى كامل لياقتى، وصحتى فى أحسن حال، كنت سعيدا متوهما أننى لن أبلغ الستين أبدا، أذهب إلى عملى الذى صرت خبيرا فى أدق تفاصيله، بل أننى صرت مرجعا لحلول كل المشاكل الفنية والمالية، كنت فى حالة عالية من العطاء والحكمة والنظرة المتأنية إلى ادق التفاصيل، كل إسهاماتى فى العمل فى السنوات الأخيرة كانت بناءة وفعالة بالشكل الذى عاد على عملى بالفائدة الكبيرة.
منذ أن بلغت الخمسين من عمرى كنت قد أخذت على عاتقى مهمة تبنى الشباب الصاعد وإعطائهم خبرتى والأخذ بأياديهم والدفع بهم إلى تحقيق أفكارهم واكتساب خبرات حقيقية على الأرض، فقد كنت مؤمنا بأن النصح والارشاد المكتبى لا يفيد شيئا، فالشباب- بطبيعته- يكره من يملى عليه ولكن إلقاءه فى وسط الحقول وتحت هطول الأمطار وجعله يشعر بهذا الالم والفشل والنجاح وامتصاص تلك الخبرات التى لا يمكن الحصول عليها إلا بالتخبط على الأرض.
فقد كنت ناصحا مرشدا موجها ثم أترك العربة والحصان تندفع ومن ورائها الشباب يرمى بذور الأرض، يقع أجرى إليه، وأوضح له لماذا وقع، يتخبط فأشرح له أن الثقة بالنفس تأتى من الإيمان بالله والشعور الدائم بالقدرة على تخطى المستحيل، نتحدث فى الماضى والتاريخ و تحاكى كيف أن أناسا وبشرا عاديين آمن بذواتهم ففعلوا المستحيل، و لماذا أنت لا؟! هذا التحاور كان يتم وسط الأحداث، فقد كنت أحكى لهم دائما مقولة هنرى كيسنجر أعظم وزير للخارجية الأمريكية فى تاريخها الذى كان يقول "إن المهارة ليست فى إصلاح الطائرة على الأرض، لكن المهارة الحقيقية فى إصلاحها وهى فى الهواء وسط الأحداث وتخبط المحركات فى العواصف".
كان هذا هو حالى، ولكن الغريب والمحير أنه منذ أن وصلنى خطاب شئون العاملين بإحالتى الى المعاش وقع على الأمر كالصاعقة، وكأننى أتلقى أمرا لم يخطر لى حتى فى أحلامى، ذهبت إلى منزلى فى ذلك اليوم محبطا كئيبا مفككا، كآلة حلت خيوطها فأصبحت متناثرة ، عقلى يتخبط وقلبى فى حالة من السكون العشوائى الذى لا يحمل قيمة و لا معنى، ألقيت بخطاب بداية رحلة الموت على الأرض التقطته زوجتى ونظرت إلى وقالت: "لا حول ولا قوة إلا بالله.. يادى المصيبة هنعمل إيه دلوقتى؟" قالت كلمات تنتمى إلى تراث أحمق عفن تم دفنه فى القلوب والعقول وتحت كل خلايانا منذ آلاف السنين، قالت زوجتى كلمات وكأنها ترنيمات من القبور قالت كلمات وكأنها إعلان عن نهاية العالم والإعداد لقطار الموت.
لم أبد أى تعليق، أو رد فعل لما تقول وكأنى أوافق تماما على ما تقوله،. خلت غرفتى ولكن زوجتى على غير العادة لم تسألنى عن إعداد العشاء، وكأنها رأت أن ليس هناك ما يدعو إلى فعل أى شيء له علاقة باستمرارية الحياة أو فعل الأشياء التقليدية التى تؤكد ارتباطك فى الحياة، ويجوز أن زوجتى رأت أننى لا أستحق أى خدمة من أى نوع فقد انتهت حياتى وانتهت الحياة بالنسبة لها بطبيعة الأحوال.
نمت نوما طويلا متقطعا بلا تركيز، آه آه آه فقد جئت إلى منطقة الفراغ واللاشيء، فقد كان دائما من أحلامى أن أنام وأحصل على كفايتى من النوم، ولكن الآن وكأن الحياة ساحت تماما كما تنصهر المعادن، ولم يتبق منها إلا شوائب النوم ، النوم اليوم أصبح تعبيرا عن الإهمال والنهاية، ولم يعد أمنية أسعى إليها للراحة واستعادة النشاط إلى نشاط، والنشاط كله أصبح نوما وكابوسا وحلما فى نوم.
استيقظت من نومى مريضا مرهقا مبعثرا قادما من وسط أحلام لا تبشر الا بمنغصات متوقعة، صرت مريضا متوعكا أصفر اللون، دخلت زوجتى وسألتنى: مالك؟ فيه إيه؟ تبدو وكأنك جئت للتو من قرية أصابها الطاعون.. نعم والله، هذا تعبير دقيق، الآن أشعر أننى عجوز منهك، اتصلوا بالدكتور الذى جاء بعد ساعة وأتم كشفه علىَّ وقال إن ضغطه عال جدا و حرارته مرتفعة، ويحتاج بعض التحاليل الفورية على مستويات السكر والأملاح وهكذا ... كل شيء فى تحول إلى منطقة موبوئة ملوثة بين ليلة وضحاها، ما الذى حدث؟ فقد كنت سليما معافا انطق بكل لغات الحياة، أيعقل أن يكون شعورى بأننى بلغت عمر الستين، هو تلك تلك الحفرة التى وقعت فيها وتمزقت فيها كل مكوناتى وأصبحت مريضا مسنا يتحايل على الأيام حتى يجد من يعيله ويتملق الزمن حتى يجد قطرة ماء؟!
لماذا تأخر القطار؟ قال لنفسه، فجاءه صوت من جانبه: وما الذى يعنيك الآن فى تأخر القطار أو حضوره فى موعده؟ فكل شيء فى حياتك فقد معنى الحركة والزمن، كل شيء فى حياتك تغيرت مسمياته وأصبح يمثل رموزا مملة و مهملة، هذا ما قاله له هذا الشاب الذى تتلمذ و تعلم كل ما يعرفه على يديه، نظر إليه وقال: مين؟ خالد عبدالحميد؟ أقصد المهندس خالد عبدالحميد، فقد كان دائما فخورًا بطلابه، أهلا يا إبنى، قال له خالد: دعك منى وأنا فى شديد التأسف لأنه جاء اليوم الذى يجب أن تسمعنى فيه وأنا تلميذك وأنت معلمى، أرجوك سأقول لك ما أقول ولن انتظر منك تعليقا فأنا أقل بكثير من أن أجادلك، قال له قل يا خالد ماذا تريد؟ قال خالد: أستاذى العظيم من قال لك إن عمر الستين هو نهاية أطراف الأرض من هذا الذى حدد هذا العمر بالتحديد ومن الذى انبت فى عقلك الباطن هذه الخرافات عن أنك أديت رسالتك على الأرض ومن هذا الذى حدد خطوط هذه الرسالة وكتب كلمة النهاية فيها، هل هناك نصوصا قرانية شرعت للناس وأمرتهم بالمكوث تحت الاشجار وانتظار الموت عند بلوغ أى سن، بالعكس فقد أمرنا الله تعالى بالسعى والعمل حتى ولو كان هناك نداء بقيام الساعة.
أنت صدقت أنك بعمر الستين لا بد أن تكون مريضا معاقا مسنا فأصبحت مريضا مسنا أنت الذى حدد هذا وطلبته فاستجابت له الحياة، من اى تراث ملعون تم إلقاء هذه الترانيم القبيحة عن استعذاب الألم ثم التشكى منه. لست أدرى ماذا يفعل رجلا جاهلا لم يتحصل على ما تحصلت عليه من العلم والمعرفة وإدراك الأشياء كيف تترك لمشاعر غامضة موروثة من الاف السنين لتستعبدك وتدخلك فى سبات نوم عميق يلفه الحزن والمرض. ما الفارق إذن بين الناس وأنت النموذج الذى نصبو اليه وإلى حكمه على الأشياء؟!
خالد يتحدث وكأنه شلال من الماء المندفع غير القادر عن التوقف والأستاذ يصغى مع اتساع حدقة عينيه  كأن يدا امتدت إليه لتخرجه من صحراء قاحلة قاتلة، بدأت ضربات قلبه تعلو ولكن فى وسطها حالة من الغبطة والارتياح.
 استكمل خالد قائلا: انهض يا سيدى وسيد اناسا كثيرين انهض فهناك مهام لك فى الحياة فأنت فى سن العطاء و النضوج وانهض فنحن فى أشد الاحتياج اليك اترك هذا التراث الذى كم ناديت انت نفسك بإلقائه فى مزابل التاريخ، انهض فالمهام المطلوبة منك الآن لا يمكن ان ينفذها بشرا سواك فأنت قيمة تتشخص إليها الإبصار، كيف يضيع منك مصباح النور وتفقد معالمك الحقيقية التى يعرفها العالم كله إلا أنت.
انهض وابتسم ودعنى اقول لك انت الان عمرك 30 عامًا إذا كان هذا هو القياس الذى أصابك بأمراض هى ليست فيك ولا تعتقد أننى هنا الآن لأنى أرد لك الجميل، إطلاقا أنا هنا لأدافع عن نفسى أنا وعن حياتى فأنت تمثل لنا جزءًا من ناموس الحياة الذى نلتف حوله ولو ضاع ضعنا وضاعت معه كل القيم والمعانى، نظر الاستاذ الى خالد نظرة متفحصة يملأها الإعجاب والشكر والسعادة فى أنه أسهم فى انتاج هذه الثمرة الجميلة التى ترتد به الآن إلى مضمار الحياة مرة أخرى، تركه خالد بدون تعليق و مضى بدون أن ينظر وراءه.
وقف وأخذ نفسًا عميقا وشعر مرة أخرى أن الحياة بدأت تدب فى عروقه مرة أخرى وأن هناك مهامًا أخرى فى انتظاره ليس منها زيارته للطبيب لانه لم يعد فى حاجة الى طبيب أنه الآن فى حاجة ماسة إلى أن يساعد الناس ويبنى وحلم مرة أخرى فلا عمر الستين ولا المائة أصبحت تمثل إعاقة له الآن هو هنا ونحن هم من يحدد نبض الزمن وعمر الأيام.