الخميس 25 أبريل 2024
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي
رئيس مجلسي الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي

آراء حرة

إسماعيلية رايح جاي

تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق google news
بعد أسبوع قضيته فى مدينة الإسماعيلية مشاركا فى لجنة تحكيم مهرجان الإسماعيلية السينمائى، عدت إلى القاهرة محملا بالمشاعر والصور والأفكار والذكريات التى ولدتها عشرات الأفلام والأحاديث مع عشرات الشخصيات التى التقيتها خلال هذا الأسبوع.
مرت عشرون سنة تقريبا على أول مرة حضرت فيها فعاليات مهرجان الإسماعيلية السينمائى عام ١٩٩٥. كانت دورة لا تنسى لأسباب كثيرة. أولها نوعية الأفلام التى يعرضها هذا المهرجان، والتى تختلف تماما عن الأفلام الروائية الطويلة التى يشاهدها الجميع، وأغلب هذا «الجميع» لا يشاهدون غيرها ولا يعرفون حتى بوجودها. الأفلام الوثائقية أو التسجيلية، والأفلام الروائية القصيرة، وأفلام التحريك الفنية، والتى تختلف تماما عن «كارتون» الأطفال، الأفلام التجريبية وفن الفيديو.. نوعيات لا يمكن أن تراها فى مصر إلا من خلال مهرجان الإسماعيلية، أو بعض العروض المتناثرة والقليلة فى المراكز الثقافية المتخصصة.
فى هذه الدورة من مهرجان الإسماعيلية، ١٩٩٥، شاهدنا أفلاما مهمة مثل «صبيان وبنات» للمخرج يسرى نصر الله، الذى تناول ظاهرة الحجاب وعلاقات الشباب فى مصر التسعينيات، وأفلاما مثيرة للجدل مثل «حاجز بيننا» للمخرج خالد الحجر، الذى يدور حول قصة حب بين شاب مصرى يدرس فى لندن وفتاة يهودية من إسرائيل، وأفلاما قوية مثل «إنس بغداد» للمخرج العراقى سمير، الذى يدور حول تاريخ اليهود العراقيين، الذين تم تهجيرهم بالقوة إلى إسرائيل فى نهاية الأربعينيات، وبعضهم من أقارب المخرج نفسه.
شاهدنا أيضا مشاريع التخرج من معهد السينما لكثير من الطلبة الذين أصبحوا فيما بعد مخرجين متميزين مثل «عربة السيدات» لهانى خليفة، و«أبيقورى الروح والجسد» لخالد عزت، و«زيارة فى الخريف» لسعد هنداوى، وفيلم مهم عن الدعارة فى مصر لا أذكر اسمه ولا اسم مخرجه الآن، لأنه لم يعرض بعد ذلك فى مكان آخر.
لا أنسى أيضا فيلم افتتاح المهرجان «ينابيع الشمس» الذى أخرجه النيوزلاندى جون فينى، وهو فيلم كلاسيكى أنتج فى الستينيات، وفيه يتتبع فينى وفريق عمله رحلة نهر النيل منذ المصب فى مصر، وحتى المنابع التى ينبت فيها وسط إفريقيا نتيجة انهمار المطر الغزير وسقوطه بسرعة وقوة من فوق الجبال، ولا يكتفى الفيلم برصد النهر ومياهه، ولكنه ينقل ثقافة واحتفالات وعادات الشعوب والقرى المطلة على النهر عبر مسيرته الطويلة. 
منذ عام ١٩٩٥ لم أترك دورة من مهرجان الإسماعيلية دون أن أشارك فيها كصحفى أو منظم أو مسئول عن الكاتالوج والنشرة أو مشارك فى إحدى الندوات وورش العمل أو عضو فى لجنة تحكيم، أو كل هذا معا.. ولى من كل سنة ذكريات لأفلام وشخصيات وحكايات تحتاج إلى كتاب يضمها، وبالفعل أفكر فى ضم هذه الذكريات بين دفتى كتاب ربما يصدر فى دورة العام القادم، إذا رحب المسئولون عن المهرجان بالفكرة.
ذكرياتى مع الإسماعيلية لا تقتصر على مهرجان الأفلام التسجيلية والقصيرة، ولكن تضم أيضا ذكرياتى مع مهرجان الفنون الشعبية، الذى كانت تحتضنه المدينة سنويا، وتستضيف فيه فرقا شعبية رائعة ومتنوعة من مختلف بلاد العالم، ولكن للأسف توقف هذا المهرجان منذ سنوات لأسباب أقل ما يقال عنها أنها «غبية»!.
ولكن قبل هذه المهرجانات، للإسماعيلية فى نفسى ذكريات شخصية كثيرة، فقد خدمت فترة تجنيدى فى واحد من أشهر معالمها العسكرية وهو معسكر الجلاء. فى هذا المكان المميز خدمت كجندى عادى جدا، قبل أن ألحق بالمركز الرياضى منضما إلى فريق «الجيش الثانى» فى لعبة الشطرنج، حيث حصلنا على بطولة القوات المسلحة لعامين متتاليين كفريق، وحصلت أنا على بطولة القوات المسلحة الفردية. فى هذا المعسكر قضيت أياما وليالى، وكثيرا ما كنت أنزل للمبيت فى المدينة أو للذهاب إلى نادى هيئة قناة السويس للعب الشطرنج مع فريقى الجيش والهيئة.
تعرفت على المدينة، تمشيت فى شوارعها وأسواقها، وجلست فى مقاهيها، وأكلت فى مطاعمها، وأقمت أحيانا فى واحد أو اثنين من فنادقها الصغيرة، لليلة أو اثنتين. أحببت نظافتها وشوارعها المنظمة ومبانيها القديمة العريقة ورائحة أشجارها التى لا تجدها فى أى مكان آخر، فى مصر أو خارجها.
للأسف لم تعد الإسماعيلية كما كانت، فقد أصابها ما أصاب غيرها من إهمال وزحام وتراجعت على مستوى النظافة والنظام والخدمات، وانعكس كل هذا على شعبها، كما انعكس على غيرهم، فضربهم الفكر المغلق والبؤس الاجتماعى وفقدوا الكثير من هدوئهم وسلامهم النفسى والاجتماعى، بالرغم من أننى يجب أن أستطرد مرة أخرى، وأؤكد أن المدينة لم تزل تحتفظ بالكثير من عبقها وهدوئها الساحر.
ملاحظتى السلبية الدائمة على مهرجان الإسماعيلية هى غياب أهل المدينة عن حضور فعالياته، ولست أعنى المواطنين العاديين البسطاء الذين يأتى بعضهم ظنا منهم أنها عروض مجانية لأفلام تجارية مسلية، ولكنى أقصد جمهور الشباب المتعلم المثقف الذى يحب السينما ويرغب فى دراستها أو مناقشتها أو التعلم من مشاهدتها، حتى يمكن أن يأتى اليوم الذى يدار فيه هذا المهرجان بواسطة أبناء المدينة أنفسهم، وأن تعرض فيه أفلامهم، وحتى لا يظل المهرجان خيمة متنقلة تأتى من القاهرة وترحل بمن فيها، بينما المدينة التى يحمل اسمها غريبة عنه.